ثمّة أمرٌ ينبغي استيعابه وهو أنّ فكرة « التعليم العمومي » بدأت تتحلّل. لأنّه مع بداية كلّ سنة يُطالعنا عددٌ كبير من البرامج الدراسية الخاصّة بالماستر والإجازة المهنية بشكلٍ مادي. أصبح بموجبها الطلبة / الموظفون يدفعون في كل فصل قسطاً من المال. ورغم النقد اللاذع أحياناً الذي تتعرّض إليه بعض المؤسّسات الجامعية، على أساس أنّ التعليم الجامعي ينبغي أنْ يبقَ في جوهره مجانياً، إلاّ أنّ هناك إقبالاً كبيراً من طرف الموظفين على الدراسة بالجامعة، إمّا للتثقيف (وهذا ناذر) أو للترقية في السلّم وأشياء أخرى من هذا القبيل.
هكذا يجد الموظفون أنفسهم في وضعية أخرى، تجعل بعضهم يُحقّق أحلامه بإتمام دراسته والتعمّق في مجالات البحث والمعرفة. بينما يظلّ البعض الآخر، يُحارب بشكلٍ يومي للحصول على « الكرطونة » للترقية لا أكثر، وما أكثر هذا النوع الذي يدخل الجامعة ويخرج منها بعد سنتين أو ثلاث ولم يحضر لندوة علمية واحدة، ولا شارك في تسيير لقاءات ثقافيّة، بل إنّه لم يدخل مكتبة الجامعة قط.
لا يعنينا هنا التعليم الجامعي المدفوع، إلاّ في علاقته بالمحتوى التعليمي بشكلٍ عامّ. مادام أنّ هذا النوع من التعليم يخدم فئة الموظفين ويجعلهم يعودون إلى مقاعد الدراسة ويُساهم في تثقيفهم، بما يُتيح لهم الرقي بوظائفهم وتأصيل تجاربهم في مجالات مختلفة من المعرفة.
بشهادة خبراء وأساتذة وأطر إدارية أصبح التعليم الجامعي مترهّلاً، بسبب هشاشته ووضعيته التعليمية وعدم قُدرته على مسايرة تحوّلات المجتمع وسوق الشغل. لدرجة جعلت الكثير من الناس تُؤكّد بكل مجازفة إلى القول بأنّ الجامعة أصبحت تُساهم إلى جانب مختبراتها في إنتاج البطالة. وذلك لسبب يتيم مُتمثّل في كون أسوارها، لم تعُد قادرة على إيجاد مكان مناسب للطالب داخل سوق الشغل، بعدما تقلّصت الوظائف وأصبح الطالب الحاصل على الماجستير والدكتوراه يجد نفسه بدون عمل، وهي أرفع الشواهد العلمية التي يحصل عليها الناس بلدهم.
والحقيقة أنّ مثل هذا الرأي الذي عمّر طويلاً في المتخيّل المغربي، هو الذي يقود الدولة إلى الرفع وبدون وعي من سياسة تهميش البحث العلمي وإعطاء أهمية قصوى للتكوينات المهنية والمدارس والمعاهد. لكنْ ما ينبغي معرفته، هو أنّ الجامعة ستظلّ دوماً مكان النخبة، فالشخصيات الأثيرة مثل: عبد الله العروي ومحمّد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وغيرهم شخصياتٌ درست بالجامعة ومن خلال هذا الفضاء الأكاديمي نقلوا كافّة تجاربهم ومعارفهم للناس تجاه الحداثة والتحديث والتقدّم والمساواة والديمقراطية والحرية.
قبل أنْ نُفكّر في أيّ إصلاح بيداغوجي (رغم حسن نيته وطيبته)، ينبغي أوّلاً إعادة الثقة بالجامعة ومكانتها ودورها المحوري في صناعة النُخبة بمختلف مجالاتها ومشاربها والعمل على التوعية بقوّة هذا الفضاء وأهمية من ناحية التكوين والتحصيل والتعلّم والتثقيف. هذا الفضاء هو الذي يصنع نخب المجتمع في مجالات تتعلّق بالاقتصاد والسياسة والصحّة والفن والثقافة. علينا أنْ نُولي أهمية قصوى لإنقاذ الجامعة المغربيّة من الخراب النفسي الداخلي الذي تُعاني منه. علينا تكوين أساتذة جدد قادرين على التأثير بمعارفهم المعاصرة في وجدان الناس ودعوتهم إلى التسجيل داخل شعب العلوم الإنسانية والاجتماعية، على أساس أنّ هذه الشعب مجالات خاصّة بالنُخبّ وليس من ذوي التعليم التقني البسيط الذي يتعلّمه الناس مع التدريب والتجربة.
إنّ المعرفة التي نكتسبُها داخل الجامعة، هي الضوء الوحيد الذي سيُنقذنا من التخلّف الذي نعيشه في زمن الدعاة. إنّها الخيط الذي سيقود الأعمى صوب مناطق آمنة يحتمي بها من أهوال الزمن وتحوّلاته في الزمن المعاصر.