وإلى جانب عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كيليطو وعبد السلام بن عبد العالي، يحتل صاحب « مثل صيف لن يتكرر » مكانة كبيرة لا يُجابهها أحد، إذْ رغم أنّ محمّد برّادة جاء متأخراً إلى التخييل الروائي، فقد استطاع أنْ يضع نفسه ضمن حيّز فسيح، عمل فيه على مدار سنوات جذب القرّاء إلى شخصيات وأمكنة وعوالم لم تكُن مألوفة لديهم.
ثمّة صبغة تحديثية تطبع دوماً كتابات برّادة، وتجعله كاتباً مُفكّراً فيما يكتبه ويحلم به. إذْ تتحوّل الكتابة الروائية عنده إلى عملية فكرية تقرأ تاريخ المرحلة وتتطلّع بعنفوان إلى طرح أسئلة قلقة تتعلّق بمصائر الناس وجُرحهم، لدرجةٍ يُخيّل إليك وأنت تقرأ « بعيداً عن الضوضاء، قريباً من السُكات » و »لعبة النسيان » أنّ برّادة يكتب رواية فكرية عَالمة تلهث وراء الأجساد والأحداث والتغيّرات السياسيّة والتصدّعات الاجتماعية في علاقتها بالذات. أي أنّه يتّخذ من الرواية قاطرة لتمرير أفكار وقضايا ومواقف، بعيداً عن الكتابة السهلة التي اعتاد المغاربة على قراءتها قبل النوم وعلى أرصفة محطّات الحافلة ومقاعد خطوط القطار.
ورغم أنّ كتابات صديقه محمّد شكري، قد أخذت بُعداً عالمياً عن طريق الترجمة منذ روايته الأولى « الخبز الحافي » وبعدها « زمن الأخطاء » بسبب سياقٍ تاريخيّ كان فيه الناس لم يتعوّدوا على ذلك النّمط من الكتابة العارية من الأحداث والسياقات والمفاهيم، صوب نمطٍ جديد يبدأ من الجسد وينتهي داخله، لهذا تبقى روايات محمد برّادة المحدودة على مستوى التلقي والذيوع ذات مصداقية تخييلية تُمارس رقابة على العقل وتُكسّر الأنماط الأدبيّة المتوارثة على مستوى الموضوع والصنعة والأسلوب، إلى الاهتمام بأسئلة فكرية كبرى ذات علاقة بالجسد والتاريخ والذاكرة والنسيان والوجود.
وتُعتبر روايته « الضوء الهارب » من أبرز الروايات المغربيّة التي فتحت أفقاً جديداً على مُستوى التفكير، بعدما وطّدت علاقة الفنّان التشكيلي بالرواية من خلال تخييل سيرة « العيشوني » داخل مرسمه. وبالعودة إلى المُنجز الروائي المغربي على الفنّ التشكيلي داخل الرواية، فحياة الفنانين لا تخلو من ألم ومعاناة وسوريالية على مُستوى العيش. وبالتالي، فحياة الجيلالي الغرباوي مثلاً، من المُمكن أنْ يُعاد تخييلها داخل رواية تقبض على ملامحه الشخصية وتعمل على إقامة تخييل مُزدوج يُوازي بين فداحة السيرة الذاتية واستيهاماتها وعمق اللوحة المسندية وألقها. بل إنّ الكتابة في الرواية تُصبح ضرباً من التصوير الذي يُحوّل كلّ شيءٍ إلى لغةٍ بصريّة باقية في الوجدان والمُخيّلة.
ولم يستقرّ برادة في جنس الرواية فقط، بل كتب النقد الأدبي ومارس الترجمة، بوصفها كتابة جديدة تفتح الكاتب على علاقات مختلفة بالثقافة الغربية. يتحدث الناس عن برادة الروائي والناقد، لكنّهم ينسون أو يتناسون محمّد برادة المُترجم، لكون بعض الترجمات التي وضعها لرولان بارت (الدرجة الصفر للكتابة) وجان جينيه (الجرح السري: مرسم ألبيرتو جياكوميتي، أربع ساعات في شاتيلا) وجان ماري لوكليزيو (الربيع.. وفصول أخرى) ماتزال تُقرأ إلى حدود اليوم بسبب جماليات الترجمة وقوّتها في القبض عن التعبير الفرنسي.
إنّ الترجمات المُختلفة التي أمطرنا بها برّادة، لا تعكس إلاّ ذلك التعدّد الذي يطبع ذاتية برّادة تجاه الإنتاج المعرفي. إنّه يُظهر حجم التعاضد القويّ بين التكوين الشخصي وأنماط إنتاج المعرفة المعاصرة. إنّ حياة برّادة طالما اعتبرتها مختبراً معرفياً قابلاً للتفكير فلو كتب برادة في السينما والفن التشكيلي والفوتوغرافيا لباغتنا بدراسات هامّة ومُؤثّرة في هذه المجالات، بسبب العجز البيّن في هذه المجالات وعدم قُدرة النقاد بالمنطقة العربية على كتابة مؤلّفات حقيقية تُفكّر في الصورة بمُختلف تجلّياتها.
إنّ حرص دار الفينك على اصدار الأعمال الكاملة للروائي محمد برادة خلال معرض الكتاب بالرباط في نُسخته الجديدة، خطوة ناجعة لتكريس صورته وأهميته ودوره المحوري في تاريخ الثقافة المعاصرة، سواء داخل اتحاد كتاب المغرب أو جامعة محمّد الخامس أو خارج الأفق المؤسساتي من خلال رواياته ونقاشاته الدائمة داخل ندواتٍ ولقاءاتٍ ذات الأفق المعرفي. فقد تعوّد الثقافة المغربيّة منذ نهاية الستينيات على عدم الاعتراف بمُنجزات الكُتّاب والأدباء والنقاد والإعلاميين، رغم الخدمات الجليلة التي قدموها عبر رأسمالهم الرمزي لشعوبهم وأوطانهم، لكنّ حرص بعض المؤسّسات الثقافيّة الخاصّة على تشجيع الكُتّاب من خلال إعادة طبع أعمالهم الكاملة في طبعاتٍ شعبيّة متاحة لكافّة العموم أمرٌ يستدعي التفاعل الإعلامي مع ما تقوم به هذه المؤسسات.
لقد كان الروائي المصري نجيب محفوظ مُحقاً في مقولته الشهيرة « آفة حارتنا النسيان ». فالثقافة المغربيّة المعاصرة مبنية على هذه القناعة، إذْ بمُجرّد أنْ يرحل كاتب أو مفكّر أو فنّان، حتّى يتمّ تأبينه وسرعان ما يخفت وقعه وتختفي مؤلّفاته من الساحة الثقافيّة، فيُصبح مشروع كتابنا المغاربة محض خرافة وهباء.