في كلّ الوظائف العمومية وغيرها، نعثر على آلاف الناس (العاديون) الذين لا يُقدّمون أيّ جديد للمهن التي ينتمون إليها. أناس يعانون من فقر دم الإبداع والابتكار والخيال. أناس مجهولو الهوية، لا أحد يعرفهم باستثناء عائلاتهم وأصحابهم، لكنّهم مع ذلك يشغلون مناصب صغيرة ومُتوسّطة وأحياناً كبيرة. بل إنّ بعضهم لا يجد أيّ حرج في تقديم نفسه كمُتخصّص في العلوم أو الاقتصاد ومعارف أخرى ترتبط بالعلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية. يوماً بعد يوم، يزداد هذا النوع من البشر الذي لا يُفكّر. أشخاص معطوبو الخيال وليس لهم القُدرة على التفكير في إيجاد أجندات سياسية قويّة تخدم أوطانهم ورؤى اجتماعية أصيلة تُساهم في تحديث المجتمع وتفُك كافّة المشاكل المُرتبطة به في قضايا مصيرية تتعلّق بالصحّة والتعليم على سبيل المثال لا الحصر. إنّ العاديون ليسوا في حاجة إلى شواهد أو إعادة تكوينهم من جديد، لأنّهم أشخاص بقُدرات صغيرة وباهتة، يفتقرون إلى التحليل والتحصيل والمقارنة. أشخاص لا يُحبّون وظائفهم ولا يمتلكون شغفاً تجاهها، لأنّهم ليسوا في أمكنتهم الحقيقية.
العاديون / المتخصّصون في كلّ شيء ولا شيء يتكاثرون بالمغرب، ويتباهون أمام الآلات الإعلامية بمعاطفهم الطويلة وبذلاتهم الرسمية المُتجدّدة وروابط عنقٍ مُلوّنة. العاديون ليس لهم فكرٌ تنويريّ قادر على اختراق ذواتهم، بما يجعلهم يُقدمون أفكاراً مُستنيرة في المجالات التي يشتغلون فيها. العاديون عبارة عن أشخاص يتعاملون مع قضايا البطالة والصحّة والتعليم والمجتمع المدني والثقافة وفق طريقة مكتبية، لا تنظر إلى مشاكل القطاع في عمومها وتسعى جاهدة إلى التفكير فيها وفي طُرق حلّها. العاديون أشخاص يفتقرون إلى الخبرة في أمور يعتقدون أنّهم مُتخصّصون فيها. العاديون ربّما لم يقرؤوا كُتباً كبيرة تُعلّمهم طريقة التفكير بشكل مختلف، بما يجعلهم يقفون نداً في وجه القضايا الشائكة ويُحوّلونها إلى قضايا رابحة. العاديون يستمرون في طرح أجندات وأفكار ومخطّطات وكتب وأفلام، لا تُساير تحوّلات المجتمع، لأنّها تُظهر في طيّاتها عجزاً كبيراً بأمور السياسة والمجتمع.
حين تقلّد عبد الله إبراهيم وعبد الرحمن اليوسفي وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي مسؤوليات سياسية وفكرية وثقافية، على الأقلّ كانت رؤاهم تخرج من أجسادهم المكلومة، وهم يتوجّعون ويُقدّمون أفكاراً ستُصبح فيها بعد عبارة عن مشعل حقيقي لكلّ القادمين من بعدهم.
ما يحدث اليوم داخل الوسط الجامعي في أمر التخصّص يدعو إلى الكثير من الحيرة والتساؤل. هناك أشخاص تُسند لهم إدارة مُختبرات علمية فقط، لأنّهم كبار في السن أو لأنّهم اشتغلوا سنوات طويلة في التدريس، مع أنّهم لا ينتبوه من عدم تقديمهم لشيء في المجال المعرفي. « دكاترة » بدون كتب ولا مقالات ولا ندوات. أليس هذا النوع « عالة » على الجامعة والنظام التعليمي ككلّ؟ ففي فرنسا وأميركا أيْ في البلدان التي تحترم الثقافة ودورها المعرفي في تنمية قُدرات البشر وكيفية التعامل والنّظر إلى واقعهم. يستحيل العثور على العاديون من هذا النوع داخل الجامعة. فأغلبهم متخصّصون فعلاً في مفاهيم ونظريات وقضايا وصلت صداها على مدار سنوات إلى العالم العربي ككلّ، بل إنّ أفكارهم التي ابتدعوها داخل تلك المختبرات العلمية بالجامعات التي ينتمون إليها، أصبحت تُؤثّر في بنية الثقافة العربيّة وتُوجّها صوب الحداثة.
العاديون ليسوا بشراً، إنّهم بمثابة أشباح عابرة للوظائف والمهن، يقفون كالحواجز والسياجات أمام قُدرات الشباب ويُجهضون كلّ المحاولات المختلفة للتعبير، بطريقة يبدون فيها مثل: حبوب منع اللقاح.