قُلت لزميلة صحافية في العمل أنّك تُشبهين سيمون دي بوفوار، عاتبتني بضحكتها، كمن يُشبّهها بإمرأة خارجة من عصورٍ سحيقة. أضفتُ بشكل جادّ: سيمون قد وضعت كتاباً هاماً عنوانه « الجنس الآخر » والذي يُعتبر أهمّ الكُتب الفكرية التي قدّمت رؤية مغايرة في الفكر الفلسفي. كتابٌ أخرج الفلسفة الفرنسية المعاصرة من مرض النسقية والأفكار التجريدية، صوب كتابة تنطلق من الذات وعوالمها التخييلية لتفتح الفكر على مفارقات الواقع في علاقته بالجسد الأنثويّ. ما كتبته سيمون دي بوفوار، يتجاوز عمقاً ما كتبه مفكرون عرب في حياتهم. إنّه (الكتاب) مثل البذرة التي تخفي وراءها الكثير من الأشجار الجميلة. مثل هذه الكُتب الهدّامة للأنساق الفكرية وللمرجعيات الثقافية اختفت من المشهد الفكري العالمي. لدرجة تبدو فيها بعض المتون الفكرية وكأنّها حديثُ كتب عن كتب. لا تجديد ولا ابتكار. فقط مفاهيم قديمة ونظريات كلاسيكية يُعاد التبشير بها وبأهميتها في النظر إلى بعض الوقائع والقضايا والإشكالات.
يوماً بعد يوم، تختفي مثل هذه الأيقونات الفكرية اللامعة ويحُلّ مكانها أسماء هي عبارة عن صور وفقاعات داخل السوشيال ميديا. بل إنّ الإعلام العالمي يُساهم في تكريس هذه الطحالب باسم نجومية مزيفة. كل شاشات العالم يغيب عنها المفكّرون والأدباء وغيرهم ممن يعملون على تجميل حياتنا اليومية وتوجيه مجتمعاتهم صوب أفق حداثي تحرّري. في مقابل سيطرة رجال الدين والنجوم وبرامج الموعظة الأخلاقية والطبخ. لا يجد المرء داخل التلفزيونات أسماء من قبيل: إدغار موران أو هابرماس على سبيل المثال لا الحصر. هذا الأمر، يعني أنّنا أمام واقع جديد وظواهر تحتاج إلى نقدها وتفكيكها على ضوء علوم ومعارف. ويُعتبر التلفزيون في العالم ككلّ، أكبر الوسائط عداءً للثقافة، بحكم أنه يُروّج للسخافة ويُفاقم من البلادة باسم الفن. لهذا قد يطرح المرء أحياناً بعض الأسئلة حول الأسباب غياب المفكرين من التلفزيون والسبب الحقيقي الذي يجعله يكتفي بأشباه الفنانين ممن لا يملكون ثقافة عامة حتّى في مجال تخصصهم.
لا تعرف الأجيال الجديد سيمون دي بوفوار والدور الذي لعبته هذه المرأة في تكريس رأي نسويّ نقدي تجاه مختلف السُلط الذكورية ونماذجها المتعدّدة. بل حتّى المقرّرات الدراسية لا تجد بين ثناياها هذا النوع من الفكر النسويّ الذي يقف حاجزاً أمام طبيعة فكرٍ ذكوريّ يُحاول أنْ يستحوذ على المجال العام، دون تدخّل مُعلنٍ للمرأة في هذا النقاش الذي يجتاح الفضاءات العمومية وغيرها. لماذا لا تُدرّس مؤلّفات سيمون داخل البرامج الدراسية، من شأنها أنْ تُقدّم رؤيةٍ نقدية تفكيرية بالنسبة لفكرٍ عربي إسلامي مؤسّس على المركزية الذكورية التي طالما انتقدتها السوسيولوجية فاطمة المرنيسي وفق مستويات مختلفة من التحليل.
في الدارالبيضاء، المدينة الأكثر بشاعة وارتجالاً، يتراجع الفكر النسويّ الحقيقي مُفسحاً المجال لأنواع أخرى من التفكير التي بقدر ما تدّعي أنّها حداثية، تزيد مفهوم الحداثة نفسها تغريباً. إذْ تبرز أشكال من التعبيرات النسوية غير القادرة على تأسيس فكرٍ نقديّ حقيقي، كما هو الحال في الغرب ابتداء من أواخر السبعينيات.