وذلك إلى جانب عدد من الفلاسفة الذين صنعوا مجد الفكر الفلسفي بفرنسا إبان القرن العشرين، والذي تميز بنزعة ثورية على كل الأفكار الفلسفية السابقة، فتم من خلاله تأسيس لفلسفة جديدة أقرب إلى الفعل و مشاغل الإنسان اليومية وأيضا إلى أسئلة قلقة وحارقة عن ذواتنا كالوجود والزمان والألم والجنون والمتخيل والصورة والجسد وغيرها من الموضوعات الفلسفية المهمة، التي شغلت الكتاب العرب ترجمة وتأليفا وتنظيرا، استطاعت عبرها الثقافة العربية أن تتخلى عن فقهيتها الموروثة عن العصر الوسيط لمعانقة مشاريع إصلاحية وأنساق فكرية متحررة من كل نزعة تعميمية.
كما هو الشأن في كتابات إدغار موران الفلسفية نذكر منها: "الفكر والمستقبل : مدخل إلى الفكر المركب"، "نجوم السينما"، "إلى أين يسير العالم"، "المنهج"، "ثقافة أوربا وبربريتها" والتي لا تخلو من تحليل ماهوي لطبيعة الحياة البشري، فهذا الرجل الذي ولد عام 1921 بباريس من أسرة يهودية، عرفت حياته السياسية المبكرة داخل الحزب الشيوعي الفرنسي تأثيرا على اختياراته ومساراته الفكرية، لكنه سيعود إلى نقده بعد سنوات داخل كتابه الهام "النقد الذاتي".
إن مايميز كتابات موران وهو قدرته على ممارسة سياحة ثقافية داخل أصناف متعددة من الفكر الفلسفي وفي موضوعات مختلفة. أما منهجيته فتتميز باللامنهج، بحيث أن خطابه يمتح من تخصصات متعددة مثل التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، ما يجعل طبيعة الكتابة لديه تختلف عن المعاصرين من العرب، ممن ظلوا متقوقعين داخل مناهج محددة، دون أن ننسى التأثير الذي مارسه الفكر الفرنسي على مجالات الاشتغال والتفكير من قبيل الصورة مثلا، كما هو الأمر مع جيل دولوز الذي فتح قارة مجهولة داخل الفكر الفلسفي، بدمجه لأول مرة في تاريخه السينما كتفكير وضرورة فلسفية تقوم على ابتداع المفاهيم ومدى تبلورها داخل الفيلموغرافيا العالمية، وأيضا كأداة لفهم الواقع وميثولوجياته، لتنتقل العدوى إلى مفكرين آخرين داخل فرنسا أحبوا السينما وما تمارسه من سحر، مثل إدغار موران الذي صدر له منذ الخمسينسات كتابين في هذا الصدد هما "السينما أو الإنسان المتخيل"(1956) ثم كتاب "نجوم السينما"(1957).
خاصة وأن الحقل السينمائي حسب موران، يقوم بتملك واستلاب المشاهد لحظة المشاهدة ويحرره من بؤس الواقع الذي ينتمي إليه إلى واقع آخر ترتقي معه النفس البشرية، يقول "هناك من الناس من يرى أن ما يحدث في قاعة العرض السينمائي استلاب، حيث يتم تخدير المتفرج وفصله عن الواقع وإفقاده جزءا كبيرا من استقلاليته. ربما يكون هذا صحيحا، لكن يوجد مظهر آخر يكتسي أهميته بالغة، ألا وهو التقمص، فمن خلال تقمص شخوص الفيلم، نربي فينا الانفتاح على الغير والانتباه إليه كما هو، وبالتالي نفهم حتى أنفسنا".
ولم يتوقف الأمر عند السينما، بل إن موران قد أصدر كتابا هاما بعنوان "sur l’esthétique " عام 2016 حول جملة من الملاحظات والمحاضرات عن جماليات السينما والرواية والتشكيل والشعر والمسرح والتصوير الفوتوغرافي وغيرها من الفنون الشفوية والبصرية التي تجد موطنها داخل فلسفة الفن أو مبحث علم الجمال، الذي هو أحد الفروع داخل الفلسفة، بما يجعل هذا الموضوع من الإشكالات الأساسية التي تعاني منها في الصميم الثقافة العربية المعاصرة الغارقة في سلفية ثقافية قاتلة للفن والجمال.
وذلك بسبب العداء التاريخي الذي ظلت تعاني منه فنون الصورة منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم، وكأن الثقافة العربية هي ثقافة كلمة وليس صورة، هذه الأخيرة ستنسج عبر تاريخها متخيلا حافلا بالرموز والعلامات على امتداد تاريخها الضارب في القدم. هكذا حرصت الثقافة العربية على الاهتمام بالخطابات السردية على اختلاف أشكالها وألوانها، عبر ندوات ولقاءات دائمة وجوائز خيالية ومجلات متخصصة تحتفي بالرواية وعالمها الإبداعية، مقارنة مع فنون تعبيرية أخرى من قبيل التشكيل أو السينما، ما ساهم في تقهقر بنية الثقافة البصرية العربية وتقلص عدد الباحثين ممن يهتمون بموضوعاتها المذهلة.
وأمام الغياب السحيق لتدريس الجماليات كتخصص داخل الجامعة المغربية، ازدهرت مختبرات السرد، وساهم ذلك في تضخم الخطاب النقدي حول الرواية أكثر من الكتابة الروائية الإبداعية نفسها، ومع ذلك هنالك أسماء عربية مهمة تحاول أن تقيم برزخا في كتاباتها من أجل مقاربة جماليات السينما والتشكيل والتصوير الفوتوغرافي، لكنها تظل معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة.
من هنا تأتي قيمة كتاب "في الجماليات"(2019) لإدغار موران، كتذكير لهذه الإشكالية التي تعترض سير وتقدم البحث العلمي العربي وتجعله لصيقا بالخطاب واللوغوس، وإن كان الكتاب لا يكتفي بالدرس الجمالي داحل الصورة، بل ينفتح حتى على الأدب والموسيقى والمسرح وبترجمة علمية سلسة، من لدن المترجم المغربي الدكتور يوسف تيبس، أحد المترجمين المغاربة الأكثر تخصصا في موران بحثا وترجمة وصداقة، ما جعل ترجمته تنحو منحى الإبداع، فهو يتجاوز فعل نقل مادة فكرية بطريقة ميكانيكية من لغة إلى أخرى، وترحيل مفرداتها وكلماتها ومعانيها.
بل الأمر يزداد صعوبة حين نكون في حضرة الجماليات وضراوة تداول معجمها الفني، بحيث تصبح الترجمة هنا إبداعا حقيقيا يقوم على ترجمة اللغة بكل رموزها المكشوفة والمخبوءة وما توحي به من معاني ودلالات داخل النص الأصلي، وصولا إلى مفاهيم النص المركبة وما تفرضه هذه الأخيرة من معرفة كبيرة بالمنطلقات الجمالية والإبستمولوجية للمفكر، بغية تسهيل عملية الترجمة ونقل أفكارها إلى لغة أخرى على مدار المحاضرات التي جاء فيها الكتاب، ألقيت في مجملها عام 2016.
يقول عنها موران "أغرقتني هذه المحاضرات من جديد في ثقافتي الأصلية، الأدبية، والشعرية، والموسيقية، التي حركت بعمق مراهقتي وأثرت في عقلي. كان استماعي إلى افتتاحية أوبيرا السفينة الشبح هو ما أذكى قراري بالانضمام إلى المقاومة. كما قادني ديوان موسم في الجحيم لرامبو أنا وصديقي جاك فرانسيس رولاند، إلى المغامرة السرية. ظلت الموسيقى والشعر والأدب حاضرة، ونشطة، ومشعة، ومغذية لي طوال حياتي".
لا يدعي موران في كتابه هذا صياغة نظرية حول مفهوم الجمال، بقدر ما يعمل على تشريح المفهوم نظريا في علاقته بالتمثيل لدى الذات المبدعة أو ما يسميه موران في أول محاضرة له ب "الشعور الجمالي" الذي يعتبره كونيا وذي طبيعة بشرية.
ومن جهة أخرى، يحرص موران على أن الأفكار الفلسفية لا تتنزل داخل كتب الفلسفة فقط، وإنما داخل باقي الفنون أيضا كالتشكيل والسينما والأدب، هذا الأخير، سيجد فيه عددا من الفلاسفة تصورات تخدم مشاريعهم مثل كتابات ميلان كونديرا وجون بول سارتر وكافكا وأيضا بالنسبة للتشكيل، كما هو الأمر لدى ميشيل فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" مع الفنان الإسباني فيلاسكيز، ثم كتابات هيدغر عن أشعار كل من هولدرلين وريلكه، ثم جيل دولوز في كتابه عن فرانسيس بيكون وعدد من الأفلام السينمائية الفرنسية والأمريكية، التي استطاع من خلالها أن يبلور كتابة فكرية، تقوم بالاستناد على الفن ومفاهيمه.
إن ما لا تستطيع اللغة أن تعبر عنه، تستطيعه الفنون التعبيرية، التي تبدو وكأنها صرخة تجاه الواقع والتاريخ، فالفن عموما لا يمكن أن ينشىء خارج التاريخ، فهو يظل دوما لصيقا بذاتية الفنان وبسياقات تاريخية وفنية أنجبته، ففي الفن يعمل المخرج/ الرسام/ الموسيقي على التقاط أشياء وتفاصيل صغيرة من الواقع وداخل إطار أو قالب فني يعيد من خلاله إنتاج هذا الواقع تخييليا، ما يؤدي في النهاية إلى ما يسمى داخل بعض الدراسات النقدية ب "جماليات الصورة"، سواء تعلق الأمر بالصورة السينمائية أو بالصورة الفنية/ التشكيلية أو بالفوتوغرافية التي تكون الأقرب إلى التوثيق، بسبب تبوثها وعدم حركيتها مقارنة مع السينمائية.
ثم إن إدغار موران، لا يميز في تحليلاته بين التشكيل والسينما والفوتوغرافيا والموسيقى والشعر والمسرح وفن الخطابة وغيرها من الفنون، فهو يعتبرها متكاملة ومتداخلة ما دامت تسعى دوما إلى خلق وإبتكار لجماليات تثير فينا شعورا جماليا "يأتينا من الأشكال والألوان والأصوات، ومن السرديات والمشاهد والقصائد والأفكار أيضا" وهي كلها خصائص وصفات مميزة ومشكلة لمفهوم الفن في نظره.
أما في الفن المعاصر، فقد أصبح يستمد ميزته ومكانته وأنطولوجية تأسيس عمله الفني من مدى تلقيه من لدن الجمهور، هذا الأخير، لم يعد بإمكانه الوقوف سامقا أمام فتنة العمل الفني كمشاهد ومتذوق لجمالية العمل، بل يجد نفسه مطالبا في المشاركة الفنية والإبداعية بغية تبلور العمل وصناعة معناه الفكري والجمالي، فيتم بذلك استبدال مركزية العمل حول الفنان أو المبدع باعتباره أصل العمل الفني بتعبير هيدغر، لتتحول المركزية صوب المشاهد أو الجمهور، ما سيدفع بالباحثة ماري آن لاسكوريه في كتابها "introduction à l’esthétique " لتعيد صياغة مفهوم "التلقي" بضرورة التفكير في ماهية الفن اليوم أمام التحولات التي طالت العالم البصري ومعه الفن المعاصر.