ليس على المستوى العربي فقط وإنما العالمي، لما راكمه من أعمال شعرية متميزة داخل الصحف والمجلات العربية، سواء كمراسل لها أو كمدير تحرير، كما هو الشأن لمجلة "الكرمل" الشهيرة، التي أسسها رفقة كتاب عرب، ثم مجلة "شؤون فلسطينية"، التي عمل رئيس تحرير لها ببيروت، بعد اعتقالات عسيرة تعرض لها منذ بداية الستينيات بسبب نشاطه السياسي المبكر، فاضطر إلى الدخول للقاهرة لاجئا.
وعلى الرغم من ذلك لم يتخلى محمود عن مشروعه الشعري، الذي ظل حريضا أن يستمر فيه إلى جانبه النضالي، فاستطاع بالفعل أن يخط لنفسه مكانة متميزة مكسرا القواعد والرؤى والتصورات، التي قام عليها الشعر العربي الكلاسيكي، فاتحا له آفاقا شعرية وجمالية متفردة تنطلق من خصوصيات عربية، بل ولها ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية محاولا من خلال ذلك
أن يخرجها من الطابع الإيديولوجي، الذي ميز بعض التجارب العربية في ذلك الإبان، خاصة عند جيلي الستينيات والسبعينيات، من خلال مراهنتهما على البعد السياسي.
وهو الأمر الذي حدس له محمود درويش مبكرا، فاتجه بنصه الشعري صوب البعد الجمالي، الذي ستعمل بعض التجارب الشعرية اللاحقة على تأجيجه، فيصبح هذا الشرط الجمالي هو ما يؤسس النص الشعري وليس السياسي – الأيديولوجي. وأعني الاشتباك الملغم بين الشعري والسياسي. يقول درويش في هذا الصدد "أريد أن أكتب شعرا من مكان آخر. أريد أن أكون أنانيا. أخشى أن لا يكون لشعري قيمة غير أنه يكتب في إسرائيل. إذا كان الأمر كذلك فأنا لا أريد أن أكتب شعرا بعد الآن. يكفي أن أحمل الشعارات".
لقد استطاع محمود بالفعل أن يخترق "القصيدة" العربية وما كان يدور في فلكها من نقاشات مجانية حول "هوية " النص الشعري ومدى تشبث الشعراء العرب بخصوصياتهم العربية لحظة الكتابة، فاستطاع درويش أن يخرج من هذا الإطار الضيف، الذي يلجم أفق النص الشعري والجمالي، مانحا له متعة جمالية أخرى عبر الخروج به إلى الكونية.
وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين الكونية والعالمية، إذ أن هذه الأخيرة لها صلة وطيدة بالترجمة، لأنها تشكل مدخلها الوحيد والناجع من خلال نقل الإنتاج الفكري والأدبي لكاتب ما إلى لغات أجنبية عبر جرائد ومجلات وكتب مترجمة، أي أن يصبح نتاجه الشعري مُرحّب به من لدن القارئ غير العربي، فيتم التعرف على مراجعه ومنطلقاته وخصوصياته المندسّة داخل النص الشعري وتضاريس تشكلها والعوالم التخييلية، التي تؤسس جوهرها الجمالي، وبالتالي يصوغ بها خطابه المعرفي.
أما الكونية فلها علاقة بتأثير كاتب عربي في بنية تفكير أخرى، أي مدى إسهام هذا الشخص في تراث الآخر الغربي من خلال نقده وتفكيكه ومساءلة بنية لامفكره عبر سجال معرفي ونقدي. وهذه الكونية لا تتأتى إلا من خلال توفر الكاتب على مشروع فكري أو شعري متجذرين في ثقافته العربية، كما هو الحال لجملة من مشاريع شعرية، استطاعت أن تحفر مجراها عميقا في التربة الغربية وأن تحقق هذه الطفرة بخصوصيات جمالية تغوص في التراث العربي.
لكن دون أن تقيم في غيبوبته، متناسية تراث الآخر الشعري بغية إعادة بناءه بطرق وأدوات ومناهج جديدة، تجعله يفتح أفقا شعريا جديدا عبر استنباته في أراض شعرية أخرى لمساءلته وتشخيصه، كما هو الحال عند الشاعر محمود درويش وأيضا عند بعض المفكرين العرب كإدوارد سعيد وعبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي وغيرهم من المفكرين والأدباء والفنانين العرب، الذين اخترقت نصوصهم وأعمالهم البلاد العربية، فاتحة لها أفقا كونيا تنتفي معه الحدود العرقية والإثنية، بعدما يصبح النص الشعري أو الفكري، هو المعيار الأساس للحكم والتقييم، فيغدو موضع فحص ونقد.
جعل محمود من فلسطين مركزا كونيا لمعانقتها، فالتحم بها لدرجة يصعب اليوم فصل أحدهما عن الآخر، فكلما صدرت أنطولوجية جديدة أو كتاباً مترجماً إلى ونصطدم بذكراه التي نُعيد معها تاريخ جسد فلسطين الجريح، فلا نتذكر، إلا ذلك الجرح والحزن الذي خيم على أنفسنا لأسابيع طويلة لحظة جنازته، التي حضرها كبار المثقفين من مختلف دول العالم، إيمانا واعترافا بجزالة الرجل وقيمته، شعرا وفكرا ورمزا ونضالا في وجه الاستبداد.
لكن فلسطين بسحرها الأزلي استطاعت أن تظل صامدة رغم قهر التاريخ في وجه وجبروت الأنظمة السلطوية بكل قواها المتحالفة داخليا وخارجيا، وأيضا للقمع التعسفي الذي قال عنه الشاعر عبد اللطيف اللعبي يوما "الجرح هو ذلك الألم المرفق دوما والأليف، والذي يطبع صوتنا بترجيفات لا إرادية، يطبع وجه فرحتنا بمسوحات الحزن السعيد، يطبع ضحكتنا بالحشرجة إن لم نقل الغثيان. فلسطين كجرح معناه الشعور الدائم بتللك الهشاشة التي لا علاقة لها بالضعف والتي تحتم علينا استنفار كل ملكاتنا للوصول إلى أعلى درجات الصحو والعنفوان، الجرح كجدلية الوهن والقوة، كحافز حيوي للتجاوز، هذا هو الوشم الأول الذي تحفره فلسطين بالحديد والنار في الذاكرة".