ورغم أنّ معظم النقاد، كانوا قد أشادوا بالدور الكبير، الذي لعبته المُخرجة مفيدة التلاتلي داخل السينما التونسية، فإنّها لم تأخذ من العناية ما يستحق الذكر، وهي على قيد الحياة، بحكم ما تميّزت به المُخرجة من قدرة على الحفر في مكبوث المجتمع التونسي، سيما في موضوعات تتعلّق بالمرأة، في أفلامها: "صمت القصور"(1994)،"موسم الرجال"(2000)،""نادية وسارة"(2004) بوصفها المُحرّك الخفيّ للفعل السينمائيّ لديها. إنّ الجرأة التي تحبل بها أعمال مفيدة في أعمالها المذكورة قادتها إلى أن تغدو أهم المُخرجات المغاربيّات ممن عملن على تكسير عصا الطاعة كما يقال داخل سينما تونسية تلهث جاهدة إلى الدخول صوب معترك التحرّر داخل مسار السينما العربيّة.
ولأنّ هذه الأفلام اشتغلت بذكاء على تكثيف النظر إلى المرأة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فإنّ فيلمها الأوّل "صمت القصور" تم اختياره ضمن أفضل 100 أُنجز عن المرأة العربيّة، بالنظر إلى كون مفيدة التلاتلي، جاءت بالأساس من مجال المونتاج الذي درسته بفرنسا وعُرفت به وببراعتها في التركيب والتوضيب داخل أعمال عربيّة مغاربيّة كبرى.
لكن انفتاح التلاتلي على مجال الإخراج السينمائي، قادها إلى اكتشاف ذاتها المنسيّة وكل تلك الترسّبات السياسية والاجتماعية الموروثة عن طريق التنشئة الاجتماعية أو الإعلام الرسمي إلى البحث عن هذا العُنف الخفيّ، الذي تُعاني منه المرأة داخل الخطاب اليومي المَغاربيّ.
على هذا الأساس، لا يُمكن النظر إلى تجربة التلاتلي، بمعزل عن مشروع سينمائيّ تونسي يزمع منذ سبعينيات القرن الـ 20 إلى إحداث قفزات فنية وجمالية داخل مختلف أنماط صوره السينمائية. فالوعي بالتاريخ قليل، بالمقارنة مع السينما الجزائرية، لكنّ الرهان على التحديث والحداثة والتحرّر، برز بشكل قويّ داخل السينما التونسية.
فالجسد بمُختلف تمثّلاته السياسية والاجتماعية والنفسية، يظلّ حاضراً بجلاء في أعمال مفيدة التلاتلي وكمظهر للتحرّر والبحث عن أنا مفقودة وسط هذا التعدّد الهوياتي، الذي كانت تشعر به شخصيات التلاتلي السينمائية، فهي بقدر ما كانت تطرح سؤال الهوية مَغاربيّاً، ظلّت تعمل سينمائياً على إيجاد حلول للفرد المَغاربيّ، بغية تجاوز انغلاق الذات وتشبثها بالجذور على حساب هوية الآخر، الذي أضحى يعيش فينا ونعيش فيه.
لا يُمكن فصل السينما التونسية عن سياقها السياسي، الذي بزغت فيه، بحيث تبدو الأكثر داخل المنطقة المَغاربيّة من حيث ارتباطها بالمَسار الديمقراطي لتحرّرها.
ففي هذا الأفق السياسي المحض، تقع تجربة التلاتلي السينمائية وإن بشكل محتشم، بسبب قدومها إلى الإخراج السينمائي، في وقت حقّقت فيه السينما التونسية، مكانة مرموقة لها على مستوى موضوعاتها السينمائية وحجم أفلامها المُنتجة سنوياً داخل مسار تحرّرها، حتى غدت فيلموغرافيتها بارزة ومُؤثّرة داخل المشهد السينمائي العربي.
لكن رغم هذا التأخير في اختراق مجال الإخراج بالنسبة لمُخرجة اشتغلت لسنوات طويلة داخل التلفزيون الأجنبي، سيما وأنّ بصمة التلاتلي وتجربتها الغنية بفرنسا وعملها كمونتير مع كوكبة من المخرجين العرب مثل مرزاق علواش في "عمر قتلاتو الرجلة" و"الذاكرة الخصبة" لمشيل خليفي و"الهائمون" لناصر خمير، تبقى مُهمّة ومُؤثّرة، بالنظر إلى الرداءة الفنية، التي باتت تطبع بعض التجارب السينمائية العربيّة، اتصالاً بما كانت تُعاني منه المرأة العربيّة من عنف وتسلّط، تجاه سُلطة أبيسية أضحت بمثابة موروث سلطوي رمزي، يُعيق نظرة الفرد العربي في علاقته بالمرأة وأحلامها وحقوقها وحريّتها.
صحيح أنّ موضوع المرأة سينمائياً ليس بجديد، ولكن براعة التلاتلي في نسج صور سينمائية ذات خصوصية نسوية تبقى ناضجة، بالنظر إلى اشتغالات عربيّة أخرى، إذْ نجحت من جهة أخرى في أن تجترح صورة سينمائية، لا يُمكن للمرء أن يسقطها على جغرافيات عربيّة أخرى، فالصوة لديها مرتبطة بتاريخ المرأة داخل تونس، ففي "صمت القصور" تكشف بقوّة ما يُمكن أن تتعرّض له الخادمات داخل مثل هذه الأماكن المُغلقة، لكن التلاتلي، لا تتوقّف عند هذا الحد، بقدر ما تجعل من حكاية الفتاة، التي ولدت من أب مجهول داخل هذا القصر ذريعة للحفر في بنية التاريخ التونسي وعاداته وتقاليده وطريقة نظره إلى المرأة.
ورغم أنّ الحكاية زمنياً تتراوح بين نهابة الأربعينات وبداية خمسينيات القرن المنصرم، فإنّ الاشتغال على مفهوم الزمن لدى التلاتلي، يأخذ طابعاً مزدوجاً بين ماضٍ نوسطالجي عنيف تتذكر فيه الفتاة ماضيها داخل جدران القصر وتلمح طيف والدتها كخادمة، وبين حاضر (عين الكاميرا) يتجرأ على كشف مكبوث جنسي يتستّر عليه المجتمع التونسي ومُؤسّساته الرسمية.
إنّه ذكاء سينمائي لدى التلاتلي لتقول ما لا يستطيع اللسان قوله. فالترميز البصري له عاملٌ مُهمٌ في مثل هذه الأفلام للتسلّل وتجاوز سُلطة الرقابة، رغم أنّ المُخرجة، لم تكُن بهذه الحدّة الفجّة في إدانة السلطة الذكورية التونسية سينمائياً، التي قد تجعل من عين الرقابة تتدخّل للمنع، بسبب موضوعية التلاتلي في النظر إلى المرأة داخل الفيلم، نظراً إلى كونه يوحي أنّه مجرد قصّة مُتخيّلة عن فتاة حالمة عاشت داخل قصر وعادت إليه يوماً لتتذكّر ماضيها مع والدتها.