على مدار سنوات، ظلّ المسرح المغربيّ منارة ساطعة داخل الثقافة المغربيّة، مكانة لا تُجابهه فيها إلاّ الكتابة الشعريّة خلال السبعينيات مع رموزها الكبرى مثل: محمّد الخمّار الكنوني ومحمّد السرغيني وعبد الله راجع وعبد اللطيف اللعبي ومحمّد بنيس وعبد الله زريقة، رغم أنّ الارتباك الذي يعيشه المسرح الآن، هو نفسه تعيشه الكتابة الشعريّة لكنْ بشكلٍ هستيري طافح. فقد شكّل المسرح بمُختلف أنواعه وألوانه، مُختبراً فكرياً لإعادة ترسيم الحدود بين دعاة التقليد والحالمين بحداثةٍ فنّية، لم ننجح إلاّ حدود اليوم، في تغذية شرايينها وجعلها قضيّة فكريّة كبرى تستحق كلّ العناء والاهتمام، بل ومجهوداً مُضاعفاً من أجل إرساء دعائمها داخل المجتمع.
لكنْ على الأقلّ بقيت التجارب الأولى أمينة للمسرح وقادرة على نسج علاقة دائمة مع المجتمع المغربيّ الذي كان مُتشبّعاً بالثقافة المسرحية ويمتلك من العُدّة الفنّية، ما يجعله يبسط للسائح الأجنبي أهم الوجوه الفنّية وتقديم ملامح أوّلية عن المسرحيات المُتوّجة بمهرجاناتٍ أو التي لقيت احتفاءً باهراً من لدن المُجتمع، فكانت الفُرجة المسرحية، بمثابة طقسٍ أسبوعي بالنسبة له ولعائلته، وهو عاملٌ أساس ساهم في تشكيل الوعي الفنّي وانتعاش المسارح والعاملين بها من مُمثّلين ومُخرجين وتقنيين، بهدف تعزيز الوسط المسرحي، وجعله ثقافة اجتماعية، تُخرج الناس من الروتين اليوميّ وتدفعهم صوب عوالم الفنّ والإبداع والابتكار.
ورغم أنّ مظاهر التسلية ـ الترفيه، تبقى النّمط الغالب على تاريخ المسرح المغربيّ الحديث، إلاّ أنّ بروز تجارب معاصرة، قد تُنفي هذا المعيار الجماليّ في تلقّي العمل المسرحيّ، وتنزع عنه بُعده الترفيهي لتزُجّ به داخل سياقٍ فكريّ أكثر تجذّراً بالواقع. ليس كلّ المسرحيات الحديثة ذات صبغة ترفيهية، لأنّ بعضها يتّخذ ميسماً فنياً تجديدياً، كما هو الحال في أعمال الطيب الصديقي الذي يُعدّ رمزاً لتيارٍ مسرحيّ، جعل من التراث العربيّ نافذة مُشرعة لإقامة نوعٍ من التجريب المسرحي.
وإذا تأملنا المسار الفكري الذي قطعته بعض الأعمال الحديثة، لا يكاد المُشاهد / القارئ، يجد إلاّ بعضاً من ملامحه الجماليّة داخل المسرح المعاصر وفي تجارب مسرحية محدودة. أمّا الشقّ الكبير منها، فلا يتجاوز البُعد الترفيهي الكوميديّ الذي يظلّ هو الآخر مُهمّاً، بحكم أنّه استطاع خلق صداقة قيّمة مع الجمهور المغربيّ بمُختلف شرائحه، عبر تقريب الفُرجة المسرحية من الناس، وخلق أوراش كبرى في مُدن الهامش، لكنّه غير كافٍ على مُستوى تجديد الفُرجة المسرحية والدفع بها صوب مُتعرجاتٍ جماليّة جديدة، يغدو فيها العمل المسرحيّ مُختبراً للتفكير وآلة فنّية تُدين الواقع وترسم له آفاقاً جديدة على مُستوى الكتابة والتخييل.
وفي مقابل الشحّ الذي تميّزت به الفترة السبعينية من ناحية الإنتاج وعدد القاعات المسرحية، فإنّها مع ذلك تظلّ بمثابة فترةٍ ذهبية للمسرح المغربيّ، مقارنة بما يحدث اليوم من تسطيحٍ وتنميطٍ. إذْ لم تنجح الجهات الوصية على الشأن المسرحي، في جعل المسرح فنّاً ديمقراطياً مُعمّماً على مُختلف المدن والجهات، في وقتٍ تظلّ فيه مدن مثل الدارالبيضاء والرباط وطنجة ومراكش، أكثر المُدن التي تعرف نموّاً مُتزايداً على مُستوى العرض.
أمّا داخل المُدن الصغيرة، فإنّ المرء، لا يكاد يعثر على مسرحية واحدة تُعرض في السنة، وهذا في حدّ ذاته يُعتبر خللاً في الرؤية، طالما أنّ هذه المسارح الصغيرة هي نفسها حقّقت نهضة فنّية لتاريخ المسرح، لأنّ أغلب المسرحيات الكبرى خرجت من أحياءٍ هامشية، لكنّها استطاعت اختراق مكبوث الواقع السياسيّ والاجتماعي، حتّى غدا بعضها يحمل خطاباتٍ فكريّة قادرة أنْ تُحرّك مناطق يبابٍ من الاجتماع العربيّ.
ركّزت مُجمل المسرحيات المُلتزمة على ثنائية التقليد والحداثة، وعملت وفق هذا المنظور الفنّي، على تشذير الحكايات والقصص وتركيبها في قالبٍ مسرحيّ، لكنّها مع ذلك لم تخرج في عموميتها عن هذه الثنائية الفكريّة التي شغلت عشرات من المسرحيين والسينمائيين والتشكيليين، بحكم السياق التاريخيّ الذي كانوا ينتمون إليه، رغم أنّ الاهتمام بمفهوم الهويّة لم يكُن تلقائياً، بل بسبب التهديد الذي غدت تفرضه العولمة الثقافيّة، حيث أصبحت النصوص تشتبك مع تراث الآخر، ويُحاولان معاً نسج علاقةٍ فنّية قوامها الإبداع.
وبغضّ النّظر عن سياق ثنائية الأصالة والمعاصرة، استطاع المسرحيون المغاربة على تواضع الإمكانات الإنتاجية شحذ ترسانتهم الفكريّة، عبر ما قدّموه من متونٍ مسرحية ساهمت في تقريب أواصر الصداقة بين المغاربة والمسرح، تارة بالاستناد على أشكال فنّية تراثية مُستوحين عوالم وميكانيزمات فنّ الحلقة، وتارة أخرى بالارتكاز على مفهوم التجريب، من خلال تكسير حدّة الشكل التراثي والتركيز على نظيره الفنّي الغربيّ.