أعترف شخصياً، أنّه حينما ظهر البوند آنونس لمُسلسله "بنات العساس"(2021) تملكني خوفٌ كبير من أنْ يفقد إدريس الروخ مكانته كمُمثّل، في حالة ما لم يكُن العمل جيّداً بدخوله عالم الإخراج التلفزيوني، لكنْ مع بداية عرض العمل التلفزيوني وتوالي حلقاته وتصاعد مَشاهده الدرامية، بدأت الرؤية تتّضح شيئاً فشيئاً، حول الإمكانات المُذهلة التي يتوفّر عليها إدريس الروخ كمُخرج، لأنّ قُدرته على التأثير في المسلسل بدت واضحة على مستوى التصوير وتحويل نتوءاتٍ صغيرة من الواقع، صوب صورةٍ درامية قادرة على الاشتباك مع عنصر الحكاية.
وبغضّ النّظر عن أهميّة النصّ من الناحية الدرامية وقُدرته على خلق جدلٍ مُجتمعي، إلاّ أنّ قُدرة الروخ بدت واضحة على مُستوى الإخراج. وهذا الأمر، يظلّ نادراً داخل الدراما المغربيّة، إذْ يصعب أنْ يعثر المرء على مُمثّلٍ يُجيد حرفة الإخراج وله القُدرة على تجاوز حدوده كمُمثّل والدخول في عالم الصورة ومُتخيّلها. نفس الأمر، تكرّر في عمله السينمائي الجديد "جرادة مالحة"(2022) الذي عُرض مساء يوم الثلاثاء بسينما ميغاراما بالدارالبيضاء، أمام جمهور كبير من عُشّاق السينما. بدا الروخ في بداية الفيلم وكأنّه يستعرض عضلاته السينمائية من خلال تقنيات التصوير والفلاش باك والموسيقى التصويرية، لكنْ في اللحظة التي بدأت فيها قصّة الفيلم تتكشّف، ستبرز أهميّة هذه التقنيات البصريّة والسبب الذي يجعله كمُخرج مُتمكّن يعمد إليها، من أجل التأثير على مفهوم الحكاية وصناعة مُتخيّلها بصرياً. وقد كان المُخرج ذكياً في استخدام هذه التقنيات، لا باعتبارها وسائط بصريّة فقط، وإنّما كأدواتٍ فكريّة يتوسّلها لإضفاء أبعادٍ جماليّة على الفيلم.
ينتقل الروخ من الدراما التلفزيونية صوب العمل السينمائي، فيحشد له ترسانة مفاهيمية تطرح أسئلة العلم في علاقته بالواقع والجسد. ورغم أنّ الفيلم سينمائي بامتياز، إلاّ أنّه يحمل "بعضاً" من خصائص العمل التلفزيوني، سيما على مُستوى تشابكه مع مفهوم التشويق. فالفيلم يتكوّن من سلسلة صُوَرٍ مُترابطة تُكوّن نسيجاً بصرياً للحكاية. هذه الأخيرة في "جرادة مالحة" تُوجّه الصورة السينمائية وتجعلها تتجذّر في بيئتها وواقعها، لأنّ الفيلم بدا وكأنّه قد شُيّد على جسد المُمثلة (منى الرميقي) باعتبار أنّ فنّ الأداء، يُشكّل دعامة قويّة في الفيلم، لدرجةٍ يغدو فيها أداء الممثلة، هو ما يصنع الفيلم ويُتيح له إمكاناتٍ فنّية وجماليّة.
وإذا كان هذا النّمط التلفزيوني يبدو جلياً في طبيعة الصُوَر والمَشاهد ومفهوم الزمن، فإنّه يأخذ في "جرادة مالحة" بُعداً جمالياً وليس تجارياً. لقد نجح إدريس الروخ في عملية الكاستينغ وفي اختياره الدقيق لبعض شخصيات الفيلم، فالأداء مطلبٌ وجوديّ وليس فنّي، لأنّ على أساسه يبنى الفيلم ويُؤسّس شرعية صُوَره. إنّ الصعب في السينما، هو أنْ يتحوّل جسد المُمثّل الوسيلة الوحيدة لنجاح الفيلم، وهذا الأمر، قد لا يكون دوماً بسبب ضعف السيناريو أو هشاشة الفكرة، وإنّما بسبب فطنة المُخرج وقّوة الممثلة في أداءٍ دورٍ صعب.
يلعب الروخ منذ بداية الفيلم على نمطٍ من الصُوَر الدرامية الحسّية التي تنقل اللامفكّر فيه من الصورة، فهي لا تسعى جاهدة وراء الأحداث الدرامية ودلالاتها الرمزيّة، بل ترك إدريس الروخ الكاميرا مفتوحة على تحوّلات المَشهد الدراميّ، وذلك من خلال رصد ما لا يُرى، أيْ أنّه يترك فعل المُشاهدة رهيناً بمفهوم "الإدراك" ومدى تحكّمه في مفهوم المتعة البصريّة، لأنّ صُوَر "جرادة مالحة" تُدرك وتُحسّ، ولا تنقل ولا تُصوّر مرارة الواقع بميكانيكية. كما أنّ طبيعة النصّ وتأرجحه بين الدراما والغموض، ساهم في إبراز هذا النّمط الجماليّ الذي يُحوّل السينما إلى فنّ لا مرئيّ. فكلّ شيءٍ يُدرك، انطلاقاً من عملية التفكير، إذْ لا تسمح الكاميرا بالنسبة للمُشاهد التهام الصُوَر والمَشاهد والأصوات، وإنّما تترك فعل المُشاهدة رهيناً بالتفكير. وهذا الشيء هو الذي يجعل فيلم إدريس الروخ أكثر تحرّراً من كلّ بُعدٍ ترفيهي، لأنّه فيلمٌ قويّ يطرح علاقة الإنسان بالآلة، وهل يُمكن لهذه الأخيرة أنْ تحوّل الإنسان إلى "جرادة" قابلة للتجريب وإعادة صنعه من جديدٍ وفق قالبٍ مُعيّن كما يُريد له بعض الأفراد والجماعات.