إنّ تضخّم المال في حياة المغاربة، جعلهم يُفكّرون في كلّ الطرق التي تجعلهم يُقدّمون أنفسهم على أساس أنّهم « مخاصهم حتى خير ». إذْ يُتابع المرء على محطة القطار ومن خلال وقفة لا تتجاوز 10 دقائق غباء ومآسي مجتمعٍ بأكمله. هذا الصباح أسمهم يتحدّثون ورائي، فهمت من كلامهم أنهما متزوجان. رجل في الخمسين من عمره وفتاة تتجاوز الثلاثين، يتبدى لي من خلال جسدها أنّها حامل. هي تتكلّم بصوتٍ مُرتفع، لكنّ الزوج يُجيبها بصوت لا يكاد يُسمع. فهمت من خلال حديثها غير العادي، أنّ الزوج سيتعذّر عليه هذا الشهر السفر، لأنّه لا يملك المال للسفر. غير أنّ الزوجة مُنفعلة منه، وتُحاول في كلّ لحظةٍ الرفع من حدّة الصوت تجاه زوجها. أشعر وكأنّي الوحيد هذا الصباح ممّن سمع مضامين الحديث، لكونها يقفان ورائي وبشكل قريبٍ مني. شخصياً، لم أمانع نفسي من الانصات والتلصّص. إنّ مُهمّة الكاتب أنْ يكون قريباً من الناس، يسمع حكاياتهم وقصصهم، يُشاركهم آلامهم ويستمع إلى نبضهم في كلّ لحظةٍ، كما لو أنّه طبيبٌ يُشخّص أمراض المجتمع وأعطابه.
إظهار للآخر ما نملكه من هاتف ومفاتيح سيارة وحذاء جديد، عبارة عن مرض ألمّ بالمجتمع في السنوات الأخيرة. أمرٌ كهذا نُعاينه يومياً على موائد المقاهي، إذْ يعثر الجالس فوق مائدةٍ مجاورة له، على محفظة نقود ومفتاح سيارة وأكثر من هاتف ذكي، وكأنّ عامل المقهى يطلب من الزبون أنْ يُصرح بممتلكاته كشرطٍ أساسي لشرب قهوة وتدخين سيجارة. أتابع هذه السلوكات يومياً في الفضاءات العامّة والتي تُظهر مدى تضخم بعض مفاهيم الرقيّ الاجتماعي في حياة المغاربة. لم أرى يوماً شخصاً شابا يحمل بين يديه كتاباً أو جريدة حتّى لو كانت صفراء، بل يفتخرون فيما بينهم بالهواتف الذكية ومفاتيح السيارة المركونة على « باركينغ ». سلوكات كهذه لا تُظهر في عمقها طبيعة التحوّلات العميقة التي تطال المجتمع المغربي وكيف غدا المال يُشكّل هاجساً بالنسبة للناس أكثر من عانيتهم بسلوكهم وأخلاقهم ومواقفهم وأفكارهم تجاه حياتهم الخاصة.
بين الرجل الذي لم يجد هذا الشهر ما ينفقه على مصاريف جنينه والسفر لرؤية والدته، وبين الشابة التي تقف إلى جانب مع صديقها وهما يُقهقهان عالياً ويتبادلان الرسائل والأغاني فيما بينهما، يرسم المجتمع صورة مرتبكة ومُتناقضة عن شؤونه وأحواله. الاهتمام بالرقي واختراق المراحل، يُشكّل هاجساً للمغاربة أكثر من أشياء صغيرة، يُمكن الاعتناء بها وتطويرها والتي ستقودهم حتماً إلى النجاح في حياتهم الخاصّة والعملية. نحتاج اليوم إلى أنْ نُعطي فرصة للتفكير في سلوكنا تجاه أنفسنا قبل الآخر. نحتاج إلى خبراء في علم النفس وعلم الاجتماعي لتحليل هذه الظواهر الطافحة بقوّة داخل مجتمع مغربيّ مُتصدّع.