الساعة الكبيرة المثبتة فوق مبنى ولاية الدار البيضاء، المطلة على "ساحة الحمام"، تشير إلى الثامنة من ليلة السادس والعشرين من دجنبر 2016. ليلة باردة انخفضت فيها درجة الحرارة إلى أدنى مستوياتها، تزامنا مع حلول منزلة "الليالي"، التي يصفها المغاربة بالأشد قرّا.
رذاذ متساقط من السماء يجمّد الأطراف، ينثره هواء بارد فوق رؤوس من تبقى هناك من مرتادي ساحة "الحمام"، وكأنه يحثهم على المغادرة فينسابون فرادى وجماعات في حال سبيلهم.
كانت الجموع المغادرة تتخطى صبيا يرتدي أسمالا رثة، يجلس هناك فوق إحدى الكراسي الإسمنتية، يطبق بأصابع يده اليسرى على أنفه وفمه، بينماا يمد يمناه نحو المارة مستجديا إياهم بعض الدريهمات، بيد أن أحدا لم يأبه بوجوده ولا باستعطافه.
وكأنّ الصبي، الذي لا يبدو من خلال جسده الهزيل أنه أقفل عقده الأول من عمره، قد يئس من استعطاف تلك القلوب الباردة، فاندفع مسرعا، دون أن ينزع يسراه عن أنفه، متجاوزا سكة "الترامواي" غير آبه بدنوّ قاطرته، ثم توجه صوب جماعة من الأطفال المشردين كان يحتمون من البرد تحت بناية مركز البريد الفسيحة، ويتبادلون فيما بينهم خرقة بالية يلصقونها على أنوفهم ويستنشقونها بتلذذ.
© Copyright : DR
مستنقع التشرد
"عالم الشمكارا بحال شي غابة.. الواعر كيقضي على العيّان"، الكلام لمصطفى، أو "النايك" كما يلقبه رفاقه، وهو طفل في ربيعه العاشر، نشأ وترعرع متشردا بين أحضان الشارع بعدما حرم من الدفء الأسري، وفق تعبيره.
ما إن يُزح "الشّمامة" التي تغطي جزءا كبيرا من وجهه الصغير، حتى تتراءى للناظر إليه ندوب وخدوش مرسومة على خديه على شكل العلامة التجارية التي يحمل اسمها كلقب له. وحين سألناه عن سبب تلك الندوب أوضح أنه كان دائم الشجارات العنيفة مع رفاقه المشردين، والتي تستخدم فيها شفرات الحلاقة والأدوات الحادة، خلال نزاعاتهم اليومية حول أماكن النوم و"سكتور" تسوّل الأكل والمال.
بالنسبة إلى هذا الطفل المتشرد، فإن إيجاد مرقد آمن ودافئ في مثل هذا الفصل البارد من السنة يصبح أهم من البحث عن المأكل؛ لذلك، يقول مصطفى، "أختار النزوح من منطقة مرس السلطان، التي "يقيم" بها معظم أيام السنة، ليحتمي من البرد تحت سقف المحطة الطرقية "أولاد زيان"، ومثله فعل عدد كبير من الأشخاص بدون مأوى، حسبما عاين ذلك صحفي Le360، حيث يتقاسمون جميعا جنبات تلك البناية الشاسعة، وأكثرهم حظا من يتوفر على قطعة كبيرة من "الكارطون" تقيه من برودة الأرضية الإسمنتية.
© Copyright : DR
لا يتذكر مصطفى، ابن مدينة الجديدة، بدقة متى أصبح الشارع بيته الثاني؛ لكن الخلافات الدائمة التي كانت بين والديه ظلت نقطة سوداء عالقة بذاكرته؛ شجار فخصام ثم عراك بالأيدي انتهى بتفكك الأسرة وتشتت أفرادها.
وجد "النايك" نفسه، منذ نعومة أظافره، مضطرا للخروج إلى الشارع كي يتدبر بنفسه لقمة العيش في عالم لا يعترف بالضعيف؛ لكنه اليوم، وبعد كل السنوات التي قضاها متشردا، يدور في دوامة مغلقة، وكل أمله أن تحدث معجزة فتنتشله من مستنقع التشرد.
تحرش جنسي
مهما بلغت فظاعة الانغماس في عالم التشرد "الذكوري"، فإنها لن تكون بمثل المأساوية التي تتجرع مرارتها الإناث المتشردات. "سوسو" هو لقب فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، تحترف التسول بساحة محمد الخامس ونواحيها بقلب مدينة الدار البيضاء. لا تنفك تشتكي من مضايقات رفاقها المشردين لكل من تلتقيه. تقول، وهي تدخن عقب سيجارة التقطته من الأرض، إنها ما إن تخلد إلى النوم فوق عشب الحديقة أو تحت عتبة أحد المباني المحيطة حتى يباغتها المشردون محاولين ممارسة الجنس عليها بالعنف.
الاعتداءات الجنسية في عالم التشرد لا تقع ضحيته الفتيات فقط، وإنما الذكور أيضا. إذ يحكي كمال، وهو قاصر متشرد التقيناه بالقرب من ساحة "الكرة الأرضية"، أن "إقامات" المشردين غالبا ما تشهد حروبا عنيفة بسبب محاولة بعضهم الاعتداء الجنسي على البعض الآخر، تحت تأثير الخمر والمخدرات.
لكل مشرد بليته
"الشمامة"، و"البومبة"، و"الجوان"، و"السانكة".. لكل مشرد غايته وهدفه من الإدمان على هذه السموم القاتلة؛ فبينما يستهلكها بعض المدمنين للانتشاء ونسيان الواقع المرير الذي يتخبطون فيه، تُعد لدى بعضهم الآخر بمثابة وسيلة لتحفيز الجسم على مقاومة الطقس البارد.. لكن أيا كان الهدف فإن النتيجة واحدة!
ويستعين هؤلاء على مقاومة البرد، باللجوء إلى استنشاق لصاق "السيلسيون" أو شرب "فودكا" محلية الصنع، والتي لا تحتاج في تحضيرها إلا إلى خلط القليل من "الدوليو" بمشروب غازي، لتوفر لشاربها بعد ذلك الدفء.
لكن، مهما بلغت قوة المخدر، فإنها لا تمحو قسوة البرد ووطأته على هؤلاء المشردين، الذين يستدعي وضعهم، التدخل العاجل لإنقاذهم من الموت بسبب البرد الذي يحصد العشرات منهم كل عام.
© Copyright : DR
طفولة منسية
كشفت دراسة ميدانية أنجزتها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن حول أطفال الشوارع بالدار البيضاء، عام 2012 أن العاصمة الاقتصادية للمملكة تحتضن 294 طفلا في وضعية الشارع، بنسبة 38% من مجموع الأشخاص المشردين، وكشفت أن 89% من هؤلاء الأطفال ذكور، و11% إناث، ضمنهم حالتان في سن 15 و17 سنة من طفلات كأمهات عازبات لخمسة أطفال بدون مأوى.
لكن الباحث الاجتماعي شكيب جسوس، كشف في دراسة ميدانية أشرف عليها حول "ظاهرة أطفال الشوارع في المغرب" أن عدد هؤلاء أكبر بكثير، حيث أحصى وجود ما يزيد عن 1000 طفل يعيشون في وضعية شارع بمدينة الدار البيضاء.
وأكد جسوس أن ظاهرة أطفال الشوارع يعززها تواجد طفلات يعشن بالشارع وسط رياح الاعتداءات الجنسية المتكررة، التي يتعرضن لها، مشيراً ضمن إحصاءاته إلى ارتفاع عدد الأطفال الذكور عن الإناث بالشوارع وتقلّص متوسط العيش لدى هذه الفئة، إضافة إلى وجود نسبة هامة من أطفال الشوارع المنحدرين من علاقات جنسية لمهاجرين متحدرين من دول جنوب الصحراء بنسبة وصلت إلى 5% بالدار البيضاء.
وبخصوص الملامح الديمغرافية لهؤلاء الأطفال في وضعية شارع، كشفت دراسة وزارة الأسرة أن 84% تتجاوز أعمارهم 15 سنة، و14% هم ما بين 10 و15 سنة، فيما يمثل الأطفال الأقل من 10 سنوات 2%.
وعلى مستوى "مهن" هؤلاء الأطفال، أفادت نتائج الدراسة ذاتها أن أغلب هؤلاء الأطفال بنسبة (56%) يتعاطون للتسول، فيما الباقون يقومون بالعمل في تنظيف زجاج السيارات، بيع السجائر، بيع الخضر، وضمنهم نسبة لا تتجاوز 1% يتعاطون للسرقة والدعارة.
© Copyright : Le360
وبخصوص أسباب تواجد هؤلاء الأطفال بالشارع، أظهرت النتائج أنها متعددة ومن أهمها، السكن غير اللائق، والتفكك الأسري، وانحلال منظومة القيم (98%) وعدم التمدرس أوالتمدرس المحدود (37%).
أما ما يتعلق بانتظارات هؤلاء الأطفال في وضعية الشارع بالدار البيضاء، فقد كشفت الدراسة أن (94%) منهم غير راضين عن وضعيتهم و(93%) يرحبون بفكرة العودة إلى أسرهم وذويهم، و41% من الأطفال يطمحون إلى ولوج مؤسسة استقبال، بينما أكد أكثر من 50% من هؤلاء الأطفال على رغبتهم في الاندماج بمنظومة التأهيل والتكوين المهني.
وعلى ضوء هذه الدراسة، أطلقت بسيمة حقاوي، وزيرة الأسرة والمرأة والتضامن الاجتماعي، مبادرة تهدف إلى الحد من ظاهرة أطفال الشوارع في المغرب، من خلال التأطير على مستوى الأسر وخلق مؤسسات حكومية خاصة بالأطفال والفتيات اللواتي تخلت عنهن أسرهن.
حملات تمشيطية
الساعة التاسعة من ليلة 3 يناير 2017. امتطينا سيارة من الحجم الكبير "سطافيط" بيضاء كتب على جانبيها بلون برتقالي عبارة "وحدة المساعدة الاجتماعية"، التابعة لولاية الدار البيضاء الكبرى.
يجلس مع السائق منسق الدورية، فيما يركب في الخلف مساعد اجتماعي وشرطي بالزي الرسمي، يبدوان على أهبة الاستعداد للقفز من الباب الجانبي للسيارة بإشارة من المنسق.
عبرت بنا سيارة الدورية شارع الجيش الملكي، الذي كان ما يزال ينبض بحركة المارة ووسائل النقل، ثم عرجت بنا عبر زنقة علال بن عبد الله، في اتجاه محطة "الساتيام"، ثم ترجل الجميع من السيارة.
كانت الحركة دؤوبة هناك، يخلقها مسافرون يفدون على المكان فرادى وجماعات، وآخرون يتنقلون جيئة وذهابا بين دكاكين المحطة لاقتناء أغراضهم في انتظار حلول موعد السفر.
الكراسي المخصصة لجلوس المسافرين كانت مكتظة بأجساد صغيرة تحتمي من برد تلك الليلة بصخب المحطة، لكن لا يبدو عليهم أنهم في حال سفر، بالنظر إلى أسمالهم الرثة وحالتهم المهترئة.
© Copyright : DR
ما إن بصرت أعينهم قدوم عناصر الدورية حتى أطلقوا جميعا سيقانهم للريح في اتجاهات مختلفة، إلا واحدا منهم ظل متسمرا في مكانه غير آبه بدعوات رفاقه له بالهرب.
لكز المنسق هذا الصبي الذي كان يفترش قطعة كرتون في ركن من منزو من قاعة انتظار المسافرين، آمرا إياه بالنهوض، بيد أن المتشرد، الذي كان في وضعية تخدير متقدمة بالكاد تسمح له بفتح عينيه، رفض النهوض من مكانه، ليتدخل المساعد الاجتماعي لحمله على مرافقته إلى السيارة.
بين مركز المدينة وكورنيش عين الذئاب مرورا بحي العنق، التقطت دورية المساعدة الاجتماعية سبعة مشردين قاصرين، وبالرغم من إخضاعهم للتفتيش اليدوي من قبل عناصر الدورية، إلا أن بعضهم ظل يستنشق مادة "السليسيون" اللزجة بعد أن يعمد إلى وضعها في خرقة ويطمر أنفه فيها.
عند تقاطع شارعي أنفا والزرقطوني، توقفت السيارة وترجل منها المساعد والشرطي ثم قفزا فوق حائط قصير لفيلا مهجورة، ثم عادا بعد برهة مصحوبين بقاصر كان في حالة هيجان شديد.
ضجت السيارة برائحة نتنة، هي مزيج من رائحة لصاق "السليسيون" ومحلول "الدوليو"، فيما طفق الباقون يتسولون السجائر و"الشمامات" فيما بينهم.
مأوى البدون
الساعة العاشرة من اليوم الموالي. حركة دؤوبة لسيارات الدوريات داخلة وخارجة من بوابة "مركز تيط مليل"، الذي شيدته الدولة على مساحة شاسعة بمنطقة مديونة لإيواء من لا مأوى له بجهة الدار البيضاء الكبرى.
داخل مبنى الإدارة، ألفينا طابورا من "الضيوف" الجدد الذين أحيلوا على المركز خلال الليلة السابقة، ومسؤولو المركز منهمكون في تسجيل بيانات كل واحد من هؤلاء الوافدين.
هشام الراجي، واحد من المساعدين الاجتماعيين بهذا المركز، الذين تتلخص مهمتهم في التواصل مع كل نزيل قصد معرفة السبب الذي جعل كل حالة ترتمي في الشارع، ومن تم البحث لها عن حل مناسب لإعادة إدماجها داخل المجتمع.
مصطفى الصردي، مدير مركز الرعاية الاجتماعية "تيط مليل"، قال في تصريح لـLe360 إن "دار الخير" استقبلت أزيد من 700 شخص من فئة البدون مأوى، منذ انطلاق حملة انتشال المشردين من شوارع الدار البيضاء مطلع نونبر 2016.
وتحيل دوريات المساعدة الاجتماعية يوميا على "دار الخير تيط مليل" فئات مختلفة من المشردين الذين يتم التقاطهم من مختلف عمالات ومقاطعات جهة الدار البيضاء الكبرى، فيحتفظ المركز بالعجزة وذوي الاحتياجات الخاصة، بينما يحيل القاصرين والنساء الحوامل والمرضى النفسيين على الجمعيات المتخصصة.
وتقول المساعدة الاجتماعية فاطمة الزهراء سكري، أن أغلبية نزلاء هذا المركز أصبحوا مألوفين لدينا بسبب كثرة التقاطهم من الشارع، موضحة أن هؤلاء يفضلون وضعية الشارع بسبب اعتيادهم على التسول واستهلاك جميع أنواع المخدرات.
تقاطعها زميلتها كريمة لمليح قائلة: "إننا نحاول التقرب من النزيل لمعرفة أدق التفاصيل عنه وعن عائلته إذا وجدت، وذلك لمساعدته على الوصول إلى حل.."، بيد أنها مجت كلتا شفتيها تعبيرا منها على أسفها من أن حالات كثيرة تعدم الحلول وتضطر للعودة إلى حضن الشارع.
حلول ترقيعية
تعد جمعية "الإسعاف الاجتماعي المتنقل"، التي أسست في 18 أكتوبر من عام 2005 بحي بوركون بالدار البيضاء، حلقة أولية في سلسلة التكفل الاجتماعي بالأشخاص بدون مأوى بالعاصمة الاقتصادية للمملكة، خاصة فئة القاصرين والقاصرات.
ويتمحور عمل الجمعية المذكورة في التدخل بالشارع، عبر تقديم الدعم اللوجستيكي، والتوجيه، ومرافقة الأشخاص في وضعية صعبة، والاستقبال الاستعجالي، والتوعية، والمرافقة من أجل تسهيل سيرورة الاندماج المجتمعي، وهو ما رصده صحفي Le360 بالصوت والصورة من خلال مرافقته لإحدى دوريات هاته الجمعية أثناء تقديم خدماتها ليلا لفئة البدون مأوى.. شاهد الربورتاج:
وعلى الرغم من جهود الوزارة الوصية والمؤسسات التابعة لها بالإضافة إلى السلطات المحلية، للتخفيف من حدة ظاهرة تشرد الأطفال، إلا أن المهتمين بحقوق الطفل يعتبرون هذه المجهودات مجرد "حلول ترقيعية" ويطالبون بمعالجة الظاهرة من الأساس، محذرين من مخاطر هذه الظاهرة التي توصف بالمعقدة، والتي يستدعي حلا يراعي مختلف جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وترى الجمعيات الناشطة في مجال حماية الطفولة أنه "ينبغي على مختلف الوزارات المتدخلة في هذا المجال، وهي الأسرة والتعليم والتشغيل والصحة، أن توحد استراتيجية دقيقة تحارب من خلالها الظاهرة بواسطة حلول جذرية".
براءة بلا حماية
لم يختر هؤلاء الأطفال هذا المصير بإرادتهم، لكنهم تشردوا بعدما انهزموا في مباراة غير متكافئة الأطراف، واضطرتهم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية إلى الهيام في النهار لاستجداء المارة، والانزواء في الليل في الشوارع، ليقضوا ليلهم يتصارعون مع موجات البرد القارس.
هؤلاء، قاسمهم المشترك هو حب البقاء، إذ يحاولون جاهدين تناسي الواقع الذي يعيشونه، من خلال مواد مخدرة من النوع البخس، يتسولون لأجلها اليوم كله، وينفقون فيها كل درهم يتحصلون عليه.
هؤلاء الأطفال وجدوا أنفسهم في الشارع سواء لأنهم قرروا الهرب من بيوت ذويهم لأسباب متباينة، أو ولدوا في الشارع، أو ضاعوا عن أهلهم. وفي الشارع حيث يسود قانون الغاب، يتحول هؤلاء إلى فرائس سهلة المنال، بعضهم يتعرض للاغتصاب أو الاختطاف وبعضهم يتم استغلاله في التسول، ويبقى الشارع بيئة خصبة لبعضهم ليتحولوا فيما بعد إلى مجرمين أو يلتحقوا بقوارب الهجرة السرية.