كانت الشمس تدنو من الغروب عن عاصمة الشرق وجدة، حين دلفت الأم وابنيها إلى حمام البيت للاستحمام، في الوقت الذي انصرف الأب لأداء صلاة المغرب في المسجد. وما إن عاد الأب حتى أثار انتباهه هدوء مريب داخل المنزل، فطفق يتحسّس بأذنيه قرب باب الحمام المغلق، لعله يلتقط ما قد يبدد مخاوفه من حدوث مكروه لزوجته وفلذتي كبده، بيد أنه لم يكن يسمع سوى الفراغ، فاندفع مذعورا ليكسر الباب بقوة.. فصدم بمشهد مرعب: الأم (44 سنة) والبنت (17 سنة) والولد (9 سنوات) كلهم جثث بلا حراك!
ماذا حدث؟ التحقيق الذي باشرته السلطات المحلية بحي السلام بوجدة كشف أن سبب وفاة الضحايا الثلاث هو الاختناق بغاز "البوتان"، الغاز نفسه الذي تستعمله الأسرة لتسخين المياه بواسطة السخّانة المثبتة داخل الحمام، إذ تسرب خلسة ليخنق الضحايا ويرديهم قتلى.
هذا الحادث الذي أودى بأرواح ثلاثة أفراد من أسرة واحدة، دفعة واحدة، ليس متفردا، إذ يختلف المكان والزمان لكن النتيجة واحدة. فقد لقي عشرات المغاربة المصير نفسه وبالطريقة ذاتها، وفق ما تكشف عنه معطيات حصل عليها موقع Le360 من المركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية. ففي العام الماضي (2014)، تسبب هذا القاتل الصامت في مقتل 27 شخصا من بين 2682 حالة تسمم بالغاز أحصاها المركز. وفي العام الذي سبقه (2013) توفي 26 شخصا من أصل 2554 حالة تسمم بالغاز، فيما أزهق أرواح 21 من بين 2346 حالة سجلت خلال سنة 2012.
أرقام المركز الوطني لمحاربة التسمم تنذر بمواصلة هذا القاتل الصامت الفتك بالمغاربة بشكل تصاعدي سنة عن أخرى، حسب ما يظهره هذا المبيان:
© Copyright : Le360
سبب المآسي
ما إن تنخفض درجات الحرارة حتى يسارع المغاربة إلى الاستنجاد بوسائل التدفئة التقليدية وسخانات الماء التي تشتغل بواسطة الغاز، غير أن استعمال هاته الوسائل لا يخلو من مخاطر، إذ تتسبب في إزهاق الأرواح بفعل تسرب غاز قاتل منها يدعى أحادي أكسيد الكربون، وهو غاز عديم الرائحة لا يمهل من يستنشقه أكثر من ربع ساعة إذا لم يتم إسعافه في الوقت المناسب.
مصطفى، طالب عشريني من حي سيدي مومن بالدار البيضاء، سبق له أن نجى بأعجوبة من قبضة هذا القاتل الخفي، ورغم أن حادث اختناقه في حمام بيته مضى عليه أسبوعان، إلا أن فرائصه ما لبثت ترتعد وهو يحكي لنا تفاصيل الواقعة التي كادت تتحول إلى مأساة: "ما عرفتش كيفاش وقع ليا، كنت كندوّش فالحمام ديال الدار حتى لقيت راسي فالصبيطار دايرين ليا قرعة الاكسجين..".
يتوقف مصطفى عن الكلام برهة، مظهرا عجزه عن تفسير ما وقع له ذلك اليوم، قبل أن يسترسل متحدثا: "ملي شعلت سخان الما وبديت كندوّش، حسيت بالضيقة وبدات الارض كدّور بيا.. ديك الساعة طحت على راسي وما فتحت عيني حتى دّاوني للصبيطار". هنا يرفع الشاب كفيه إلى السماء شاكرا الله على إنقاذه من موت محقق، إذ يقول إن شقيقه الأكبر سمع دويّ السقطة على أرضية الحمام.. فسارع إلى نقله إلى المستشفى، حيث جرى إسعافه في الوقت المناسب.
مصير مصطفى لا يختلف كثيرا عن المئات من حالات التسمم بواسطة أحادي أوكسيد الكربون المسجلة عبر التراب الوطني، حيث تشكل أجهزة الاستحمام التي تشتغل بالغاز ووسائل التدفئة التقليدية (الفحم) العامل الرئيسي في وفاة عدد كبير منها.
رشيدة أغندوس، مهندسة رئيسة متخصصة في التسممات بالغاز بالمركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية بالرباط، تشرح في تصريح لـLe360، بطريقة علمية، كيف تتسبب آلات التدفئة وسخانات المياه في حدوث التسممات بغاز أحادي أوكسيد الكربون، الذي يحصد في المغرب كل عام أرواح 15 مواطنا في المعدل.
مكمن الخطر
رغم ما وقع للشاب مصطفى، إلا أنه لم يستوعب بعد الخطأ الذي كاد يكلفه حياته، إذ يشير بأصبع الاتهام إلى غاز "البوتان" دون أن يحيط بالسبب الذي نتج عنه تسرب الغاز إلى داخل الحمام. ولكشف هذا "اللغز" اقترح صحفي Le360 على مصطفى عرض سخان الماء، الذي استعمله يوم الحادث، على مختص في صيانة هذه الأجهزة، وهو ما تم فعلا، حيث استدعي المختص ليعاين مكان تركيب الجهاز قبل أن يشرع في عملية تفكيكه.
وكشف عبد الرحيم، اختصاصي في إصلاح وصيانة الأجهزة المنزلية بسيدي مومن، أن الجهاز تم تركيبه بطريقة صحيحة وفي مكان مناسب (شرفة البيت)، لكن ما إن حول بصره صوب الجهاز حتى شرع يمج شفتيه تعبيرا منه عن عدم كفاءة هذا النوع من سخانات المياه: "هاد الماركة ديال الشينوا هي لي كادير المصايب.. شحال من واحد رزاتو فحياتو"، يشرح عبد الرحيم موضحا أن هذا النوع، المستورد من الأسواق الأسيوية على الخصوص، يفتقر إلى شروط السلامة والوقاية ويعرّض مستعمليه إلى خطر الموت اختناقا.
يتحدث المختص بلغة تقنية وهو يمسك بين يديه أجزاء فككها من الجهاز، ليبين لنا كيف وقع تسرب الغاز من الأنبوب المخصص له إلى قناة المياه، بعد احتراق مادة عازلة، قبل أن يمتد الغاز القاتل إلى المستحم، عبر الصنبور، ليخنقه.
© Copyright : DR
ويوضح عبد الرحيم (35 سنة)، أن السخانات التي تعج بها الأسواق المغربية، على اختلاف ماركاتها وأسعارها، فإنها تختلف من حيث الجودة والسلامة، مشيرا إلى أنه "كلما كان الثمن رخيصا إلا وانعكس ذلك على الجودة وشروط السلامة"، هنا قرّب الرجل سبابته اليمنى من أذنه وشرع يخاطب مصطفى مرددا المثل "عند رخصو تخلي نصو"، محذرا إياه من شراء هذا النوع من السخانات التي كادت تسبب في مقتله.
من المسؤول؟
في درب عمر، القلب التجاري لمدينة الدار البيضاء، عاينا داخل بعض المحلات التجارية المتخصصة في بيع سخانات المياه، أنواعا كثيرة من الأجهزة التي تحمل أكثر من علامة تجارية، منها المصنعة محليا، ومنها المستوردة من الخارج، تتراوح أسعارها ما بين 800 درهم إلى حدود ثلاثة آلاف درهم. وفي كل مرة نستفسر الباعة عن سبب هذا التفاوت، يعزون ذلك إلى "الماركة" المصنعة أولا، ثم إلى طبيعة المكونات الداخلية للجهاز، وكمية النحاس، والأدوات التقنية المعتمدة في التصنيع لضمان أكبر قدر من شروط السلامة.
ويقول أحد الباعة، بنبرة يائسة: "إن الكثير من الناس يفضلون اقتناء الأجهزة الرخيصة رغم عدم توفرها على الضمانة ولا على شروط السلامة، بينما تواجه المنتوجات الجيدة ركودا".
وبرأي هذا البائع، فإن المستهلك هو المسؤول الوحيد عما قد يتعرض له من أخطار إذا اقتنى هذا النوع من الأجهزة الرخيصة، أي غير الجيدة. ويتفق معه في هذا الرأي أحمد، وهو حرفي يمتهن صيانة السخانات والثلاجات بمنطقة بنجدية بوسط البيضاء، إذ يؤكد أن جودة السخانات ذات التكلفة المنخفضة "منعدمة"، بل أكثر من ذلك، يضيف "قد تكون قاتلة بالنظر إلى المواد والمكونات الرديئة التي تدخل في تصنيعها".
ويشدد أحمد، وهو خمسيني أمضى 15 سنة من عمره في هذه الحرفة، على أن أسباب هذه الحوادث هي كون السخانات ذات العلامة الأسيوية لا تتوفر على غيار أصلي وذي جودة وفعالية، كما أن شروط السلامة بعد وقوع تسرب للغاز غير متوفرة خلافا لبعض الماركات التي تلتزم بمعايير السلامة وعلامة الجودة، على حد قوله.
لكنه في النهاية يحمل المسؤولية للمستهلك الذي يقبل –حسبه- على اقتناء هاته الأجهزة الرديئة من جهة، ولا يلجأ إلى المختص لتركيبها من جهة ثانية.
غير أن بوعزة خراطي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المستهلك، يرفض تحميل المسؤولية للمستهلك وحده في هذا الشأن، إذ يرى أن الدولة تتحمل قسطا من المسؤولية أيضا.
ويوضح خراطي في تصريح لـLe360 أن وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الرقمي هي المسؤولة عن مراقبة هذه الأجهزة قبل طرحها في الأسواق. وقال إن الوزارة المعنية ملزمة بفرض معايير الجودة على مستوردي السخانات، مع إلزامهم أيضا بتوفير ضمانات أثناء استعمالها من قبل المستهلك.
وفي هذا السياق، يؤكد مصدر من الوزارة المعنية لـLe360 أن هذه المنتوجات مقننة في إطار النظام الوطني المتعلق بمراقبة سلامة المنتوجات الصناعية، والذي يعتمد بالأساس على احترام المواصفات المغربية الإجبارية التطبيق.
ويوضح المصدر ذاته أنه عند استيراد هذه المنتجات، يتم أخذ عينات منها وإرسالها إلى المختبرات المختصة قصد التأكد من مدى مطابقتها لشروط السلامة، قبل السماح لها بولوج السوق الداخلي. وهكذا، حسب المصدر نفسه، لا يسمح للمنتوجات غير المطابقة بدخول السوق المغربية.
التوعية هي الحل
بعد أن أبعد المصدر الأخير المسؤولية عن الوزارة، ألقى بها بدوره على عاتق المستهلك، حيث شدد على أن السبب الرئيسي لحالات الاختناق الناجمة عن استعمال سخانات الماء، يرتبط أساسا بالتركيب الخاطئ لهذه السخانات، مشيرا إلى إن "بعض الناس يستعملونها في ظروف غير ملائمة لأسس اشتغالها، داخل أماكن ضيقة تفتقر إلى التهوية الكافية".. وإذا كان الأمر كذلك، فإن أسلوب التوعية والتحسيس بين المواطنين، الذي ينهجه المركز الوطني لمحاربة التسمم، هو الكفيل بالحد من تكرار هذه المآسي، أو التقليل من حدوثها على الأقل.
هذه نصائح لتجنب التسمم بالغاز، تقدمها رشيدة أغندوس، مهندسة رئيسة متخصصة في التسممات بالغاز بالمركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية: