لقد جعل التعاون الأمني الدولي من الرباط طرفا رئيسا في نموذج جديد للعلاقات الدولية يقوم على فكرة «الديبلوماسية الوقائية»، وهي فكرة تطورت في مواجهة ما توفره التكنولوجيا من إمكانيات ضخمة للتواصل سقطت بيد الجماعات المتطرفة فتحولت إلى آليات تهديد حقيقي، يتخذ صورا كثيرة أبرزها التطرف والإرهاب.
كثيرا ما راهنت الدول في علاقاتها الدبلوماسية على تطوير القوة الناعمة، وجعلت منها أداة تأثير سياسي مباشر يفوق الأدوار التقليدية للعمل الدبلوماسي بشكله الوظيفي. في المغرب نجحت المؤسسة الأمنية، في السنوات الأخيرة، في بناء تصور جديد للعمل الأمني يتجاوز الأبعاد الوظيفية السيادية، يجعل منها اليوم قوة ناعمة في إدارة العلاقات الخارجية للمملكة عبر التعاون الدولي والانخراط في دينامية دولية تحقق مكاسب سياسية أيضا
ضمن هذا السياق يمكن قراءة الزيارة الأخيرة لرئيس جهاز حماية الدستور (جهاز مخابرات داخلي) إلى المغرب. تقييم الوضع الأمني على المستوى الإقليمي والجهوي، ودراسة التهديدات والتحديات الناجمة عن تصاعد الخطر الإرهابي، وكذا سبل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين على أسس متينة قوامها المصداقية والثقة والمصلحة المشتركة. عناوين ظاهرة لهذه الزيارة التي تخفي أيضا سبقا أمنيا مغربيا يعود إلى دجنبر من سنة 2016، حينما حذرت المصالح الأمنية المغربية نظيرتها الألمانية من مخاطر هجمات إرهابية. نفذها أحد الموالين لتنظيم داعش في هجوم بشاحنة على ساحة برلين أودى بحياة 19 شخصا. في يونيو من السنة الماضية، وخلال زيارة للمغرب ألمح مدير الشرطة الفدرالية الألمانية إلى أن بلاده لم تتفاعل بشكل إيجابي مع هذه التحذيرات المغربية، وتحدث عن قيمة المعلومات التي قدمتها المصالح الأمنية في وقت سابق لألمانيا بخصوص التهديدات المرتبطة بالخطر الإرهابي.
يُمكن أن نقرأ أيضا، من خلال لقاءات التعاون الأمني بين الرباط وبرلين منذ عودة العلاقات السياسية إلى طبيعتها بعد أزمة 2021، تحولا في العقل الأمني لواحدة من أقطاب الاتحاد الأوربي. تغيير استراتيجي يعيد ترتيب الأولويات في العلاقات الخارجية لبرلين، فقد وجدت ألمانيا نفسها في قلب أزمة أخلاقية بعد أن أظهرت التحقيقات أن منفذي هجمات 11 شتنبر في الولايات المتحدة الأمريكية جاؤوا من شقة صغيرة في ألمانيا، ضمن أُطلق عليه لاحقا بخلية «هامبورغ» الإرهابية. هذه الواقعة فرضت على جهاز المخابرات الألمانية «مكتب حماية الدستور» البحث عن شركاء إقليميين ودوليين لمواجهة التطرف السياسي والديني، إلى جانب مهمته الرئيسية: حماية الديمقراطية في ألمانيا.
أيضا، لا يبدو مستبعدا من خلفيات زيارة مسؤول المخابرات الداخلية الألماني إلى المغرب، فرضيات التنافس الفرنسي الألماني التقليدي حول شمال إفريقيا. هذا التنافس هو جزء من ثقافة سياسية أوربية تدير بواسطتها علاقاتها الخارجية. ما يعطي المغرب قوة تفاوضية تحقق له مكاسب سياسية عبر بوابة الديبلوماسية الأمنية. تبحث الأجهزة الألمانية عن المعلومات لتعزيز سياساتها الأمنية وقراراتها في إدارة المخاطر الممكنة. ويُظهر المغرب أنه قوة أمنية إقليمية يَشُد إليه كبريات وكالات الاستخبارات الدولية من أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. تربطها بالمملكة شراكات استراتيجية طويلة لتبادل المعلومات والتعاون الدولي في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف ومواجهة التهديدات الناشئة. شراكات تجعل من المغرب عامل استقرار في محيط إقليمي مضغوط بأجندات دافعة نحو مزيد من التأزيم. تغذيها سياسة المحاور وتغلل «العسكريتارية اللادولتية» في الساحل.