تلعب الثقافة دوراً محورياً في تأصيل التجربة التاريخيّة للمغرب، وإعطاءها بعداً أنطولوجياً مميّزاً يضمن لها ديمومتها داخل الفضاء الدولي. ذلك إنّ البلدان التي تحمل ثقلاً تاريخياً لا ينبغي لها أنْ تُهمل تراثها الثقافي، وذلك على أساس أنّ هذا التراث، هو الذي يعطيها شرعية وجودية بها تضمن أصالتها وتفرّدها داخل الدول الأخرى. فالتراث الثقافي وإنْ كان في ظاهره له صلة بالماضي، فإنّه في باطنه عبارة عن مفهوم زئبقي متجدّد يتطلّع دائماً بعنفوان صوب المستقبل. إذْ يُمثّل التراث بالنسبة لبلدٍ له مرجعية تاريخية ضاربة في القدم مثل المغرب، قوّة ناعمة وعنصراً رمزياً يلعب دوراً كبيراً على مستوى الاستراتيجي، بحيث يقوده دوماً إلى البحث عن منافذ ضوءٍ بها يحتمي من أضواء العولمة ونتوءاتها.
إنّ الوعي بقيمة التراث الثقافي يزداد يوماً بعد يوم في الأجندات السياسيّة، وعياً من الأحزاب والنقابات والمؤسسات والحكومات بقيمة هذا التراث الذي غدا مؤثّراً في الراهن المغربي. بل إنّ التراث، يُعدّ في صيغةٍ من صيغه، شكلاً من أشكال الدبلوماسية الناعمة التي تعمل الحكومات على الاستثمار فيها رمزياً من أجل تفعيلها وجعلها أداة للترويج للحضارة المغربية ووسيلة من أجل الترافع الدبلوماسي حول وحدة المغرب وشرعيته الحضارية.
والحقيقة أنّ هذا المفهوم رغم ما يطبعه من تهميش من لدن باحثين وأكاديميين ومفكّرين، فإنّه يحضر بقوّة داخل السياسات الثقافيّة، إذْ تتعامل معه الحكومات بدرجةٍ عالية من التوظيف، سواء على مستوى الخطاب السياسيّ اليوميّ أو من داخل ثنايا الأنشطة الثقافية التي تقوم بها وزارة الثقافة، سيما فيما له علاقة بين المغرب والعالم الخارجي. إنّ الدبلوماسية الناعمة تُمثّل جوهراً حقيقياً للصناعة الثقافيّة، لأنّها قبل أنْ تكون دعامة دبلوماسية أو وسيلة للترافع السياسي، فإنّها في جوهرها تُمثّل عنصراً أساسياً لتحقيق التنمية الثقافيّة وكشفاً مذهلاً للدور الذي تلعبه الصناعة الثقافية الوطنية من أجل إبراز العمق التاريخي والروابط الثقافيّة والعناصر الفنية التي يتميّز بها المغرب عن غيره من البلدان العربية الأخرى.
حقّق المغرب طفرة نوعية في المجال الثقافي، إذْ استطاع أنْ يُخرج الثقافة في بعدها المركّب من حالات الجمود التي ظلّت تطبعها، على أساس أنّ الثقافة في نظر البعض مجرّد بذخ يبدو المجتمع في غنى عنه، أمام ما يعاني منه من أهوال سياسية ومآزق اجتماعية وتصدّعات ثقافيّة. لكنْ بغضّ النّظر عن هذه الرؤية التحقيرية للثقافة وقيمتها داخل الفضاء العام، فإنّ الجهات الوصية على الشأن الثقافي بذلت مجهوداً كبيراً في السنوات الأخيرة من أجل تأصيلها والعمل على دعمها بملايين الدراهم، سواء عن طريق الكتب أو المعارض الفنية أو ترميم المواقع الأثرية أو العروض المسرحية أو الأعمال السينمائية وغيرها. بيد أنّ المجهود الذي بُذل من أجل الرأسمال الثقافي، سواءٌ من لدن السياسيين أو المثقفين أنفسهم، فإنّه يظلّ في أساسه يخدم الثقافة والمشروع الحضاري للمجتمع المغربي وجعلها قاطرة لتحقيق التنمية الاقتصادية.