وهكذا، فقد شدد الملك تأكيده على الرهانات المرتبطة بالواجهة الأطلسية للمملكة، من خلال، أولا، تأهيل المجال الساحلي وطنيا، بما في ذلك الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية، عبر جعل هذه الواجهة، تخدم الغايات التي حددها الخطاب الملكي في «جعل الواجهة الأطلسية فضاء للتواصل الإنساني، والتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي».
ولبلوغ هذه الغايات الثلاث، فإن الخطاب الملكي نص على عديد من الآليات الإجرائية والمقترحات العملية، من قبيل تسهيل الربط بين مختلف مكونات الساحل الأطلسي، عبر استكمال إنجاز البنيات التحتية، وتوفير وسائل النقل ومحطات اللوجستيك؛ الدعوة للتفكير في تكوين أسطول بحري تجاري وطني، قوي وتنافسي؛ مواصلة العمل على إقامة اقتصاد بحري، يساهم في تنمية منطقة الصحراء المغربية ويكون في خدمة ساكنتها؛ اقتراح تصور اقتصادي متكامل قوامه، تطوير التنقيب عن الموارد الطبيعية في عرض البحر، ومواصلة الاستثمار في مجالات الصيد البحري، وتحلية مياه البحر، والنهوض بالاقتصاد الأزرق، ودعم الطاقات المتجددة؛ ثم اعتماد استراتيجية خاصة بالسياحة الأطلسية، قائمة على استثمار المؤهلات الكثيرة للمنطقة، قصد تحويلها إلى وجهة حقيقية للسياحة الشاطئية والصحراوية.
أما ثاني هذه الرهانات، فيتمثل في هيكلة الفضاء الأطلسي بمعطياته «الجيو-سياسية» على المستوى الإفريقي. هذه الهيكلة، تتأسس من «المعرفة الجيدة» للمملكة، للرهانات والتحديات التي تواجه الدول الإفريقية، عموما، والأطلسية منها على وجه الخصوص. فالواجهة الأطلسية الإفريقية تعاني من خصاص ملموس على مستوى البنيات التحتية، بالرغم من مستوى المؤهلات البشرية ووفرة الموارد الطبيعية.
ولتجاوز هذه الوضعية، فإن الخطاب الملكي، قدّم إطارات للاشتغال، برامج للعمل المشترك، ومبادرات لتجاوز ما هو قائم، وهو ما يتضح من خلال ثلاث توجهات، أولها: اعتماد الشراكة، لإيجاد إجابات عملية للإشكالات المطروحة. ويندرج في هذا الإطار «المشروع الاستراتيجي لأنبوب الغاز المغرب-نيجيريا»، بما يطرحه من أفق للاندماج الجهوي، والإقلاع الاقتصادي المشترك، وتشجيع دينامية التنمية على الشريط الساحلي (الذي سيمر منه الأنبوب)، بالإضافة إلى ما يقدمه من ضمانات لتزويد الدول الأوربية بالطاقة.
ويتمثل الجزء الثاني من هذه التوجهات في مبادرة إحداث إطار مؤسسي يجمع الدول الإفريقية الأطلسية (وعددها 23 دولة)، بأهداف توطيد الأمن والاستقرار والازدهار المشترك.
أما ثاثلها، فيتجلى في إطلاق مبادرة دولية، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، في إطار مقاربة قائمة على التعاون والشراكة، لحل المشاكل والصعوبات التي تعرفها هذه الدول، والتي لا يمكن حلها وفق مقاربة قائمة فقط على البعدين الأمني والعسكري. وفي هذا الإطار، التعبير عن استعداد المملكة، مساهمة منها في إنجاح هذه المبادرة، على وضع بنياتها التحتية (الطرقية والمينائية والسكك الحديدية)، رهن إشارة الدول المعنية.
وفي سياق ذي صلة، جدد الخطاب الملكي استحضاره لتميز الأمة المغربية بقيمها الروحية والوطنية والاجتماعية، في عالم كثير التقلبات. من خلال التذكير بكون المسيرة الخضراء هي تجسيد لهذه القيم الجامعة (لاسيما قيم التضحية والوفاء وحب الوطن)، وهي التي مكنت المغرب من تحرير أرضه واستكمال سيادته الترابية؛ ثم الحديث عن القيم، من خلال نموذج «الجدية»، ليس عتابا، ولكن «تشجيعا» على مواصلة استكمال المشاريع والإصلاحات، ورفع التحديات؛ إلى جانب أن منظومة القيم المتكاملة، هي التي مكنت من توطيد المكتسبات، والنهوض بتنمية الأقاليم الجنوبية، وترسيخ مغربيتها على الصعيد الدولي؛ علاوة عن أن قيم التضامن والتعاون والانفتاح، التي تميز المغرب، تعزز مركزه كفاعل رئيسي وشريك سياسي واقتصادي، على كل المستويات (الإقليمية والدولية، وخاصة مع الدول العربية والإفريقية الشقيقة)، موثوق وذي مصداقية.
هذا، وقد ركّز الخطاب الملكي على البعد التنموي في الصحراء المغربية، وعلى ضرورة تنمية وتقوية النسيج الاقتصادي، عبر الرهان على المؤهلات الطبيعية للمنطقة، لمواكبة التمدن والتوسع العمراني الذي تشهده، والتقدم الاقتصادي الذي تعرفه. وهذا ينسجم مع الخطابات الملكية السامية السابقة، من خلال الرهان على تنمية الأقاليم الجنوبية، والتفكير في نموذج اقتصادي جديد لها، ووضع خيرات المنطقة في خدمة ساكنتها، وهو ما يدحض بشكل كبير خطاب الخصوم، القائم على المطالبة بضرورة «الاستفادة من الثروات الطبيعية» للمنطقة.
كما قدّم الخطاب الملكي تصورا جديدا لاقتصاد الأقاليم الجنوبية قائم على استغلال واجتها الأطلسية. هذا التصور يتسم بتعددية القطاعات الاقتصادية المعنية، وعلى تطوير الصناعات المرتبطة بها، وهو ما سيشكل تثمينا لمجالها الترابي، وعنصرا لجاذبية أكبر للاستثمار المنتج، الذي سينعكس إيجابا على ساكنة المنطقة وعلى التنمية بها.
أما البعد الإفريقي القوي في خطاب الملك، فقد ظهر عبر مدخلين: الأول، هو الواجهة الأطلسية، والثاني، من خلال التفكير في مبادرة لإعادة الأمن والاستقرار إلى دول الساحل عبر بوابة الشراكة والتنمية وحل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية أمام عدم فعالية المقاربات التي تختزل الحل في بعديه الأمني والعسكري. إن هذا الاهتمام هو النتيجة الطبيعية لعودة المملكة إلى بيتها المؤسسي، وإلى منظور الملك للتعاون جنوب-جنوب، في إطار شراكة رابح-رابح. كل هذه المحددات تخدم المقترح الذي قدمه المغرب للطي النهائي لملف الصحراء المغربية، عبر مبادرة واقعية تقدم حلا دائما لهذا النزاع المفتعل، وتساهم في جعل منطقة الصحراء والساحل بعيدة عن التوترات والصراعات المسلحة والإرهاب والجريمة العابرة للقارات والاتجار في البشر
كما أعاد الخطاب الملكي التذكير بالدور الكبير الذي لعبته «الديبلوماسية الوطنية»، وهي عبارة تجمع بين كل تمظهرات العمل الدبلوماسي (الدبلوماسية الرسمية، الدبلوماسية البرلمانية، والدبلوماسية الحزبية والمدنية).
وذكّر، أيضا، بالترحيب والدعم التفاعل الإيجابي الذي لا زالت تحظى به المبادرة المغربية بشأن تمتيع الصحراء بنظام للحكم الذاتي، وما نتج عن ذلك من اعتراف عديد من الدول بمغربية الصحراء.
علاوة على ذلك، ذكّر أيضا بتوصيف النزاع، ووضعه في إطاره الحقيقي، من كونه «نزاعا إقليميا مفتعلا»، في إشارة إلى دور الجزائر في الموضوع، ومن كونها طرف معني مباشرة بالنزاع، وبمآلاته.
إن خطاب ذكرى المسيرة الخضراء، الخطاب الثالث، تواليا، الذي يثير موضوع «القيم»، هذه القيم التي تشكل العنصر المميز للخصوصية المغربية، في عالم تلاشت فيه هذه القيم أو تضاءل تأثيرها وحضورها. هذه القيم، هي التي تمنح للتجربة المغربية فرادتها، وقدرتها على تدبير الملفات المطروحة، وهي الدافع لمواجهة التحديات والرهانات المطروحة. في هذا الخطاب هناك استحضار لقيم أخرى غير تلك التي تمت الإشارة إليها في الخطابات السابقة، وهي قيم: التضحية والوفاء وحب الوطن، والتعاون والانفتاح، التي مكنت المغرب من استعادة سيادته على ترابه، وعلى تعزيز مصداقيته ومكانته على الصعيد القاري والدولي.
وتجدر الإشارة إلى أن الخطاب الملكي السامي ذكّر، إضافة إلى ما سبق، بمغزى ورمزية الاحتفال بذكرى المسيرة الخضراء، عبر الانتقال من مسيرة لاستكمال الوحدة الترابية، إلى مسيرات (بالجمع) للتنمية والتحديث والبناء، بغاية تكريم المواطن، وحسن استثمار المؤهلات التي يتوفر عليها المجال الترابي لبلادنا بما في ذلك الصحراء المغربية؛
وحري بالذكر، كذلك، بأن الخطاب الملكي لم يغفل عن استحضار دور «الديبلوماسية الوطنية» في تدبير ملف وحدتنا الترابية، وما أسفر عنه من تقوية موقف المملكة، والتصدي لمواقف ومناورات «الخصوم»، وتزايد الدعم الدولي للوحدة الترابية لبلادنا. ولم يفت الخطاب الملكي الإشارة، أيضا، إلى أن هناك نوعان من الخصوم: «المكشوفين»، و«الخفيين».