ولعل أهم أسباب هذا التراجع هو الرئيس الفرنسي نفسه الذي افتعل نزاعات أضرت بصورة فرنسا، بداية مع المغرب ثم لحقتها دول في غرب إفريقيا والمنطقة العربية اليوم.. واقع لم يعد مقبولا السكوت عنه حتى من داخل الدولة العميقة نفسها في فرنسا.
تتوسع دائرة الخلاف بين قصر الإليزيه (الرئاسة الفرنسية) و »الكِي دورسيه » (الخارجية الفرنسية) بسبب سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون ومواقفه تجاه بعض التوترات الجيوسياسية في المنطقة العربية وقبلها في إفريقيا. فبعد الرسالة التي وجهها برلمانيون فرنسيون حول خطر انحسار النفوذ الفرنسي في إفريقيا بسبب سياسات ماكرون الخارجية، تحرك دبلوماسيون فرنسيون في الشرق الأوسط خارج الأعراف والتقاليد السياسية ووجهوا مذكرة « تُعرب عن أسفهم لانحياز الرئيس إيمانويل ماكرون لإسرائيل »، انحياز يشكل قطيعة مع موقف باريس التاريخي المتوازن تجاه طرفي النزاع في الشرق الأوسط.
يقرأ الكثير من المتابعين للسياسة الخارجية الفرنسية في هذا الموقف تمردا ديبلوماسيا غير مسبوق، يكشف حقيقة الخلاف حول السياسة الخارجية للرئيس الفرنسي، التي أصبحت تجر على فرنسا خسائر كبيرة وتدفع الكثير من أصدقاء فرنسا إلى القطيعة مع باريس، تارة بسبب تصريحات متصابية للرئيس الفرنسي كما حدث مع بلدان في غرب إفريقيا، وتارة بسبب مواقف غير مسؤولة ومتحاملة ولا تنسجم مع السياسات الخارجية لفرنسا، كان آخرها سقوط ماكرون في معسكر إسرائيل خلال الحرب الجارية مع حماس.
بالإضافة إلى كشفها عن جانب من الخلاف بين الديبلوماسية والرئاسة الفرنسية حول السياسات الخارجية للرئيس ماكرون، فإن المذكرة التي وقعها عشر سفراء فرنسيون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تشكل سابقة في تقاليد العمل الدبلوماسي، إذ جرت العادة أن توجه هذه النوعية من المذكرات/ المواقف بشكل فردي إلى « الكي دورسيه » الذي يتولى بدوره رفعها إلى « الإليزيه » كلما رجَحت المصلحة في ذلك. التقاليد تقتضي أيضا أن تُحاط المراسلات الدبلوماسية بالسرية وأن تُرسل عبر القنوات الدبلوماسية للدولة. أما أن يقع تسريب مضمون هذه المذكرة التي تحمل، على غير العادة، توقيعا جماعيا لسفراء فرنسا، فإن ذلك يحمل إشارة مفادها أن الخطاب موجه إلى الرأي العام الفرنسي والدولي، وهو سلوك يُضمر إدانة للسياسة « الماكرونية »!
في الولاية الرئاسية الحالية جر الإليزيه الكثير من المشاكل على فرنسا وتسببت دائرة الرئيس إيمانويل ماكرون في حدوث عدد من الصدامات مع أصدقاء فرنسا التقليديين، مع المغرب ومالي والنيجر واليوم في الشرق الأوسط.. ورغم محاولات « الكي دورسيه » تصحيح أخطاء الإليزيه إلا أن تراكمها عقد مهمة العمل الدبلوماسي وجعل عددا من سفراء فرنسا لدى دول حليفة في شبه عزلة عما يجري في محيطهم، وكانت النتيجة أزمات دبلوماسية غير مسبوقة وطرد لسفراء وعسكريين من إفريقيا ومحاصرة روسيا للمصالح الفرنسية في الغرب الإفريقي، بل حتى الولايات المتحدة الأمريكية الحليف السياسي لفرنسا، أخذت مسافة مع « الماكرونية » في القارة الإفريقية، وقد بدا ذلك جليا في أزمة انقلاب السلطة في النيجر حين رفضت واشنطن بشكل علني الخيار العسكري في المنطقة، ومنعت عسكرة النزاع ضدا على الأجندة الفرنسية التي كانت تدفع بمجموعة « الإيكواس » نحو حرب تغذيها الإهانة التي أحست بها دائرة « الماكرونية ».
في تقرير برلماني فرنسي حول السياسة الخارجية، صدر قبل أسبوع، لاحظ مُعدَّا التقرير أن فرنسا في عهد ماكرون تفتقر إلى استراتيجية واضحة في وقت اكتسبت فيها العلاقات الإفريقية الأمريكية أهمية جديدة. وتبقى أهم ملاحظة توقف عندها التقرير البرلماني تكمن في وجود « رئاسة مركزية بشكل مفرط، حيث عملية صناعة القرار الخارجي تتم داخل الإليزيه على حساب الجهات الفاعلة الأخرى التي لا تتم استشارتها إلا قليلا »، في إشارة واضحة إلى تغييب الخارجية الفرنسية عن صياغة هذا القرار، وهو السلوك الذي يجر على باريس أزمات كثيرة بسبب مواقفها غير المتسقة مع التوجهات التاريخية للسياسة الخارجية لفرنسا في علاقاتها بحلفائها التقليديين القدامى وحتى الجدد الذين باتوا يساومونها اليوم بريع الذاكرة الاستعمارية.