ويأخذ هذا النوع الجديد من الدعاية الشعبوية أشكالا مختلفة تمثل استمرارا للسياسة، لكن بوسائل أخرى، كما قال كلاوزفيتز، وعلى الرغم من أن الحقيقة متاحة على نطاق واسع، إلا أنه يمكن طمرها في قعر بحر من الأكاذيب والتضليل.
أصل هذا الكلام خطاب الرئيس الجزائري تبون أمام البرلمان الجزائري، حيث انبرى يسوق للشعب المغلوب على أمره مجموعة من العروض الفلكلورية وكأن الجزائر حديثة العهد بالاستقلال من قبيل تسويقه للشعب الجزائري الشقيق التزامه «إطلاق الحوار السياسي الوطني» وإعادة بناء دولة الحق والقانون وإرساء دعائم التنمية الاقتصادية... ومجموعة من السخافات والترهات بغية إخماد الحراك الشريف الذي بدأت منارته تسطع في ليل الجزائر الطويل حتى أنه بادر إلى إطلاق مجموعة من الأسرى، متناسيا أن الجزائر كلها عنوان لسجن كبير.
وفي هذا السياق، طالب فرنسا بالاعتراف بجرائمها في الجزائر، في الوقت الذي كان عليه مطالبتها بالوثائق والخرائط الحقيقية الموجودة في الأرشيف العسكري الفرنسي.
إنها حرب إعلامية قذرة يقوم بها النظام الجزائري من أجل بث الإشاعات والمعلومات الخاطئة والمغلوطة للتأثير في نفسية الشعب الجزائري المغلوب على أمره، وبيع الوهم له، وسلب الإرادة منه، حيث أن النظام العسكري الجزائري يحاول أن يسوق الوهم والأكاذيب، خاصة وأن حكامه ألفوا التوظيف السياسوي للأساطير وتعمد صناعتها من أجل تحقيق أهداف إيديولوجية معينة.
حيث نشهد شخصنة للسلطة، وشخصنة للقرار العام، واحتواء للنخب، والتي تحولت فيها مختلف السياسيات والقرارات العامة إلى مجرد قرارات سياسوية تتحكم فيها أهداف توسعية زادت من حدتها، التطلعات الاستراتيجية نحو الزعامة، مع العلم أن «الجيوسياسة الميتافيزيقية»، هي التي ترتكز على الأوهام وإذكاء النعرات، وتضخيم الأنا وتمجيد الذات (الجزائر وما أدراك ما الجزائر..)، والجري وراء المصالح الضيقة، بدل مفهوم العمل المشترك الذي يستمد مقوماته من «الجيوسياسة الواقعية»، والذي تطبع لغة مقاصده، مقومات من قبيل التدرج في البناء، والواقعية في الإنجاز، والاعتراف المتبادل بسيادة كل دولة وسلامة أراضيها.
وهذا الرهان، هو رهان سياسي ومجتمعي، ينتصر للقيم الديمقراطية ولدولة المؤسسات، يبتعد عن المزاجية والشخصنة وأوهام الزعامة الإقليمية، تقوده نخب مستقلة حرة، وصانعة لاختياراتها، تحكمها رؤية، ويحكمها ضمير ويحكمها وعي تاريخي، واستشراف مستقبلي... إن الأمر يتطلب تجديدا للأشخاص، وللمقولات والأفكار التي تبحث عن زعامة زائفة واستيعاب هذه اللحظة التاريخية والاستجابة لنبض التاريخ والمجتمع، وأن تكون لها الشجاعة لتلعب دورها كاملا في بلورة وصنع القرار أو التأثير فيه، لأن رهاننا الأكبر تنمية شعوب المنطقة.
لقد علمنا تاريخ الفكر السياسي أن الاعتماد على القوة وحدها ضعف في حد ذاته وأن أي دولة تحلت بوهم الجبروت لامحالة زائلة وأن الدول التي اتخذت من الجيوسياسة الميتافيزيقية كما نظر لها «فيخته» و«شليغل»، جوهر الحكم… تلك هي طريقها إلى الهلاك.