بدأت العاصفة حينما قررت المملكة في قرار جريء بالنظر لطبيعة المجتمع هناك، السماح للنساء بقيادة السيارات، تلاه قرار بإنشاء هيئة للتدقيق في استخدامات الأحاديث النبوية و"القضاء على النصوص الكاذبة والمتطرفة وأي نصوص تتعارض مع تعاليم الإسلام وتبرر ارتكاب الجرائم والقتل وأعمال الإرهاب".
ما من أحد توقع أن تخرج المملكة السعودية الممانعة للإصلاح، بكل هذه القرارات في حيز زمني ضيق، فهل يكون ذلك إشارة لتحول سعودي جوهري نحو الدولة المدنية؟ وهل يكون محمد بن سلمان أول من يخرج عن الاتفاق الذي رسم قبل قرنين بين آل عبد الوهاب وآل سعود؟ وما ذا عن وهابيي المغرب وسط كل هذه الزوابع؟ كلها أسئلة نقلناها للكاتب والباحث في مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث منتصر حمادة، صاحب كتاب "الوهابية في المغرب" (دار توبقال للنشر 2012)، فكان الحوار التالي.
السعودية تتحرك.. رؤية محمد بن سلمان 2030 لم تعد تستهدف الاقتصاد فقط، بل لديها جوانب اجتماعية، هل ترون في الأمر إيذانا ببداية نهاية الوهابية؟
لا يتعلق الأمر بأفول السلفية الوهابية، أو ما يصطلح عليه إعلاميا بالوهابية، وحتى لو اجتمعت المؤسسات الدينية في السعودية، بصناع القرار السياسي والأمني والاقتصادي، وأصدروا بياناً مفاده أن السعودية قررت إنهاء حقبة السلفية الوهابية، أو التصدي للآفات التي طالت مجالنا التداولي، بسبب ترويج التديّن السلفي الوهابي، فلا يُفيد ذلك أننا سنعاين أفول هذا التديّن بين ليلة وضحاها.
وبيان ذلك، أن انتشار هذا التديّن امتد طيلة عقود، منذ الطفرة النفطية، ولا زال اليوم، وها نحن نُعاين آثار عملية الدعاية والاختراق والانتشار التي طالت أغلب دول العالم الإسلامي، وحتى المجالات التداولية التي تضم أقليات مسلمة، بما فيها أستراليا، وبالنتيجة، حتى إذا انخرطت السعودية اليوم في الاتجاه المضاد لهذا المشروع، فيلزمنا الوقت الكثير حتى نعاين أولى بوادر أفول التديّن السلفي الوهابي.
مؤكد أن مضامين "رؤية محمد بن سلمان 2030"، تعج ببوادر سحب البساط عن القلاقل التي أفرزها هذا التديّن، ومنها المبادرات التي أعْلِن عنها مؤخراً، ولكن تراجع المد السلفي الوهابي في السعودية وفي العالم لن يتم بين ليلة وضحاها، لأن انتشار هذا التديّن، احتاج لوقت كبير.
يوصف محمد بن سلمان بالمصلح، واتخذ عدة قرارات جريئة بالنظر للمجتمع السعودي: مراجعة الأحاديث المتطرفة، السماح للنساء بقيادة السيارة. هل هي بداية الدولة المدنية في السعودية؟
مفهوم الدولة المدنية لا زال في طور الاشتغال النظري في التداول الإسلامي، ولو أن مجتمعات المنطقة، أقرب إلى تفعيل مقتضى المفهوم على أرض الواقع، أكثر من النخب الفكرية والسياسية والدينية، على غرارالفارق الجلي بين تفاعل المجتمعات مع سؤال الإصلاح، بما في ذلك "الإصلاح الديني" في سياقه الإسلامي، مقارنة مع الأفق الإصلاحي للنخب السياسية والفكرية والدينية، بل إن أداء العديد من هذه النخب، لا زال متواضعاً، مقارنة مع النزعة الإصلاحية السائدة لدى المجتمع.
وبالتالي الحديث عن الدولة المدنية في مجتمعات مسلمة، لا زال حافلاً بالقلاقل النظرية أساساً، ولو أن الواقع المادي يُفيد أننا نتجه نحو هذا الأفق، مع النهل أو الانتصار للمرجعية الإسلامية (نسبة إلى الإسلام وليس الإسلاموية)، أي اتجاه دول مدنية، تنص دساتيرها على النهل من الإسلام في سن القوانين.
ما يصدر عن السعودية خلال الآونة الأخيرة، محطة أولى للالتحاق بركب الإصلاح السياسي والديني السائد في دول مسلمة أخرى، سبقتها إلى هذه الخطوات، بصرف النظر عن تواضع تلك المبادرات الإصلاحية، ولكنها أفضل بكثير من الواقع السعودي في مرحلة ما قبل "رؤية محمد بن سلمان 2030".
في 2012، أصدرتم كتابا عن الوهابية في المغرب، كيف ستصل لهؤلاء الوهابيين ببلادنا رياح التغيير من السعودية، وهم الأكثر انغلاقاً؟
سؤال وجيه ودقيق يُحيلنا على ما يُشبه حالة التيه التي يمر منها التيار السلفي الوهابي في المغرب، في شقه التقليدي (أو ما يُسمى "السلفية العلمية")، وليس في شقه "الجهادي"، على اعتبار أن "السلفية الجهادية" حالة شاذة في التديّن السلفي الوهابي.
لا زال السلفيون الوهابيون المغاربية في حيرة من هول المفاجآت التي تصدر خلال الآونة الأخيرة عن صناع القرار في السعودية، وخاصة ذلك الإقرار السعودي بأن هناك رغبة للعودة بـ"الإسلام السعودي" إلى الوسطية والاعتدال، وهذا اعتراف وإقرار بما أشرنا إليه مراراً، بما في ذلك ما جاء في كتاب "الوهابية في المغرب"، من أن ذلك التديّن، بعيد عن الوسطية اللصيقة بالإسلام، باعتباره يُؤسس لتدين وسطي، عند العامة والخاصة: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، كما جاء في النص القرآني الصريح.
في نفس كتابكم، رسمتم خريطة الوهابية بالمغرب، ما التغييرات التي يمكن أن تحصل لهؤلاء والمملكة السعودية تهيئ نفسها لمرحلة الدولة السعودية الرابعة؟
يصعب الحسم في طبيعة التغيرات، ولكن بمقتضى الارتباطات العقدية والمالية، ولو نسبية، بين السلفيين المغاربة والسعودية، فمن المرجح أن نعاين مُسايرة السلفيين المغاربة لهذه المراجعات السعودية، على غرار ما يصدر عن المؤسسة الدينية السعودية هذه الأيام، في سياق التفاعل مع القرارات المفاجأة التي تصدر عن محمد بن سلمان، وتصب أغلبها في تزكية ما يذهب إليه.
ولكن في المقابل، من المرجح، أن نعاين بقاء تيار سلفي آخر، في نفس الأفق التديني السائد اليوم، بمعنى الأفق البعيد عن المراجعات السعودية الأخيرة، وإن كنا نعتقد أن هؤلاء أقلية، ولكنهم موجودون، بقوة الواقع الذي لا يرتفع، ولا نتحدث عن سلفية بعض التيارات السلفية المعروفة، ولكن نتحدث حتى عن السلفية السائدة في الجهاز المفاهيمي لبعض الإسلاميين، من طينة حركة "التوحيد والإصلاح"، والتي إن كانت إخوانية المرجعية، إلا أن بعض رموزها تعرضوا أو مروا عبر تجربة التسلف، ونتحدث أيضاً عن بعض الفاعلين السلفيين الذين يشتغلون في المؤسسات الدينية.
نحن إزاء "إبستيم سلفي وهابي"، متغلغل في تيارات سلفية، من باب تحصيل حاصل، ومتغلغل أيضاً لدى فاعلين إسلاميين، من التيار الإخواني بالتحديد، ومتغلغل في بعض المؤسسات الدينية، في إطار سياسة الدولة التي تروم إشراك وإدماج الفاعلين الإسلاميين (الإخوان والسلفية الوهابية)، في ما اصطلح عليه بـ"المقاربة التشاركية" لتدبير الشأن الديني.
كثيرا ما نقرأ عن استفادة وهابي المغرب من أموال البترودولار مقابل نشر هذا الفكر، في الوقت الذي بدأ فيه محمد بن سلمان اعتقال عدد من الدعاة، هل يتأثر ممثلو الوهابية ببلادنا بهذا المعطى؟
الجواب على السؤال يقتضي معرفة التفاصيل المالية المرتبطة بحجم التحويلات المالية السعودية نحو السلفيين المغاربة، أو طبيعية المساعدات التي يحصلون عليها، وهذه مسألة معقدة، ونزعم أنها كذلك حتى عند الأجهزة الأمنية، فمن باب أولى أن تكون معقدة أكثر عند الباحثين والمتتبعين، خاصة أنها مسألة حساسة جداً، لأنها تحيل على موضوع الارتباطات الخارجية والمشاريع، على غرار ما نُعاين مثلاً مع الحالة الإخوانية المغربية.
من ضمن الإجراءات الأخيرة لمحمد بن سلمان اعتقاله لرموز الفتاوى والدعاة، وإهماله لمجلس علماء. هل يصل التضييق للجماعات المغربية التابعة فكريا لمحمد بن عبد الوهاب؟
لا نعتقد ذلك، لأن السلفية الوهابية في المغرب، في خطها العام، سلفية مسالمة، ومتصالحة مع السلطة. صحيح أنه لديها مواقف متشددة نسبياً من مُميزات التدين المغربي (في تفرعاته الأشعرية عقيدة، والتصوف سلوكاً)، ولكن إجمالاً، وخاصة في مواقفها السياسية، تبقى سلفية مهادنة، وبالكاد صدرت منها بعض الحالات الخاصة لتيار جنيني، تحالف مع المشروع الإخواني في الاستحقاق الانتخابي، ولكنه أقلية في المشهد السلفي المغربي الذي يبقى بعيداً عن ترويج مواقف سياسية متشددة أو مؤرقة لصناع القرار في المغرب.