ثمة شيء ليس على ما يرام بالجارة الشرقية، عقدة اسمها المغرب، فماذا يعني أن يجلس أربعة "خبراء" على قناة تمولها الدولة الجزائرية، ولا تخفي تسبيحها بحمد نظام الجزائر، حتى إن الشعب الجزائري لا يتوانى في تسميتها بـ"قناة بوتفليقة"، ماذا يعني أن يسهب هؤلاء "الخبراء" في ترويج الاكاذيب والتحليلات المجانبة للصواب. وطيلة ساعة من الزمن، تحدثوا عن المغرب أكثر من الجزائر، حتى صاح أكثرهم اندفاعا "لا إنها ليست عودة للمغرب إلى إفريقيا، إنه قبول لطلب الرباط".. لا سيدي "الخبير"، لا داعي لتزييف الحقائق، وإنكار أن المغرب عضو مؤسس للمنظمة الإفريقية.
التسجيل الكامل للبرنامج على القناة الجزائرية
الحرمان من التاريخ
خصص جزء من البرنامج حول "ولادة الفكرة الإفريقية"، هنا شرع "خبراء الجزائر" في ذكر الآباء المؤسسين للمنظمة، فذكروا الغاني كوامي نكروما، والغيني أحمد سيكو تراوري، والمالي موديبو كيتا، بل وتحدثوا عن سنة 1960 وكأنها السنة التي عرفت بزوغ فكرة إنشاء المنظمة القارية... كل هذا قيل دون أدنى ذكر لاسم محمد الخامس، الاسم البارز دو الدور الحاسم في فكرة إنشاء الاتحاد الإفريقي، لكن حينما يأتي السبب من قناة بوتفليقة يبطل العجب.
© Copyright : Mohammed Maradji DR
لاضير في العودة إلى التاريخ، التاريخ الذي لا يكذب ويقدم الحقائق صافية دون أي تزوير.. من يعي التاريخ جيدا، سيعرف دون أدنى شك النشاط البارز لمحمد الخامس على الساحة الإفريقية، حتى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، الاسم السابق للاتحاد الإفريقي.
غداة استقلال المملكة، أعطى السلطان محمد الخامس بعدا إفريقيا لسياسته، وهو الذي كان منفيا رفقة عائلته بمدغشقر. وفي غشت 1960، استقبل محمد الخامس القيادي الوطني الكونغولي باتريس لوبومبا، معبرا له "المغرب إلى جانبكم ويضع رهن إشارتكم تجربته، ووسائله الديبلوماسية والعسكرية والتقنية...أنتم إلى جانب الحق والعدالة، الذي لا بد وأن ينتصر في نهاية المطاف".
وفي يناير 1960، دعا محمد الخامس القادة الأفارقة لاجتماع تاريخي بالدار البيضاء، شكل حسب مؤرخي إفريقيا المعاصرة، أول خطوة عملية قادت إلى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية.
وفي يناير من السنة الموالية، حل قادة من عيار المالي موديبو كيتا، و الغيني أحمد سيكو توري، والمصري جمال عبد الناصر، والغاني كوامي نكوروما، والإمباراطور الإثيوبي هايلي سيلاسي، وفرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، بدعوة من محمد الخامس، بل حتى الملك الليبي آنذاك إدريس الأول أرسل مبعوثا له في شخص عبد القادر علام...لتولد بعدها مجموعة الدار البيضاء في السابع من يناير من 1961، ويتم توقيع ميثاق، لوضع قطيعة مع القوى الاستعمارية.
© Copyright : DR Mohammed Maradji
سنواصل غوصنا في التاريخ المعاصر لإفريقيا، إلى أن نصل إلى إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، موازاة مع مجموعة الدار البيضاء، حيث اجتمع قادة أفارقة بالعاصمة الليبيرية مونروفيا، على رأسهم سيدار سنغور من السينغال، وهوفوي بواني من الكوت ديفوار، وويليام توبمان من ليبيريا، وأحمدو أهيدجو من الكامرون، وهاماني ديوري من نيجيريا.
وفي ماي 1963، تجاوزت مجموعتا الدار البيضاء ومونروفيا خلافاتهما، وتم الالتفاف حول ميثاق الدار البيضاء، ليتم بعيدها تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية بأديس أبيبا، بحضور 32 عضوا مؤسسا.
وبالفعل، كان محمد الخامس من الآباء المؤسسين للاتحاد الإفريقي، بل ما يجهله كثيرون، أن تفاصيل صغيرة نقلت مقر المنظمة الإفريقية من الدار البيضاء إلى أديس أبيبا.. وهو ما يجهله "الخبراء الأربعة" لقناة بوتفليقة.
"أنا عضو ولا أعترف بالجمهورية الصحراوية"
في برنامج القناة الجزائرية، استنبط أحد المتدخلين ما سماه تناقضا في عودة المغرب للاتحاد الإفريقي، متسائلا عن منطقية أن ينخرط المغرب في منظمة دون الاعتراف بأحد أعضائها... غير أن ما تجنب "الخبير" قوله أن المغرب ليس العضو الوحيد في الاتحاد الإفريقي الذي لا يعترف بالجمهورية الوهمية. فلا يخفى على العديد من الدول الإفريقية، أنه لولا الدعم اللا مشروط من الهواري بومدينن لما كان شأن لجمهوريته الوهمية.. أكثر من ذلك الدول الإفريقية التي لا تعترف بـ"الجمهورية الصحراوية" أكثر من الدول التي تعترف بها، لكي نكون أكثر دقة، فمن أصل 54 دولة عضو في الاتحاد الإفريقي فقط 17 دولة تعترف بالجمهورية الصحراوية، وبالتالي فالاستثناء ليس المغرب، فالجزائر، التي تدافع رفقة حفنة من البلدان على كيان لا يتوفر على مقومات الدولة.
وحتى لو ذهبنا في طرح صديقنا الخبير، فالجزائر تجلس في الأمم المتحدة إلى جانب إسرائيل.. فهل هذا يعني أن الجزائر تعترف بالدولة العبرية؟
الغول المغربي
قبل أن ينهي الخبير الجزائري مداخلته، قفز ثانيهم بالقول إن "المغرب ليس غولا إفريقيا"، في تنقيص منه للسياسة المغربية الإفريقية والاهتمام الإعلامي الذي خلفته عودته إلى الاتحاد الإفريقي.. نعم المغرب ليس غولا، ولا داعي للتذكير أن الملك محمد السادس قام بـ47 زيارة لـ26 بلدا إفريقيا. وخلال كل زيارة، كان الملك يحل بمشاريع بنيوية تجسد رؤيته للتوغل القاري للمغرب وللتعاون جنوب-جنوب. كما أن الملك محمد السادس بدأ حكمه بمبادرات ذات حمولة رمزية، ففي القمة الإفريقية الأوربية سنة 2000، ألغى المعرب ديون الدول الإفريقية الاقل نموا، والغى الحواجز التعريفية حول السلع القادمة من هذه البلدان، وكان يتعين انتظار سنة 2010، لتقوم الجزائر بنفس الخطوة.
بدل مهاجمة المغرب دون حجة، كان حريا بخبراء قناة بوتفليقة أن يطالبوا بلدهم باتباع النموذج المغربي والاستثمار في القارة الغفريقية، فنجاح التجربة المغربية ليس صدفة، بل نتيجة إصلاح للإدارة وتكوين للأطر والمسيرين، الذين تعلموا كيف تحول المشاريع من أفكار إلى أرض الواقع.. فهذا التعاون جنوب-جنوب من دواعي فخر القارة برمتها.
ومن ضمن الأكاذيب التي روجت خلال هذا البرنامج، أن المغرب عاد للاتحاد الإفريقي من أجل خدمة الغرب وإسرائيل، والدليل حسب خبرائنا المبجلين، أن للمغرب وضع خاص بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وهو البلد الإفريقي الوحيد الذي يتمتع بهذه المكانة، ولم يكتف الخبراء بنظيرة المؤامرة، بل أنكروا كل تفاصيل التعاون جنوب-جنوب، الذي بدأه محمد الساس سنة 1999.
ريادة دون غاز ولا بترول
ذكر الملك محمد السادس، في خطابه التاريخي بأديس أبيبا، أن المغرب لا يتوفر لا على غاز ولا بترول. في وقت تعتمد فيه الجزائر على 98% من صادرتها على المحروقات، بل حتى اليد العاملة لا تستطيع توفيرها، أبسط مثال على ذلك هو مسجد الجزائر العظيم الذي شيد بسواعد صينية.. هنا كان يتعين على خبراء قناة بوتفليقة البحث عن مكمن الخلل الذي جعل الجزائر تفشل في فرض ذاتها بالقارة.. فاقتصاد الريع الذي تنشده يستحيل أن يجعل لها موطئ قدم بإفريقيا.
ونحن إذ نشك في قدرة خبراء القناة الجزائرية، الإشارة إلى الدواعي التي جعلت بلدهم مشلولا قاريا، لا نشك في الأجندة التي جعلتهم خبراء في الأكاذيب وترويج الأغلاط ولعق حذاء النظام، لغاية في نفس يعقوب.
دون أن يشعر خبراء قناة بوتفليقة، فقد استطاعوا أن يعطونا فكرة عن حالة السعار التي تسود بالجار الشرقي، منذ أن عاد المغرب بقوة على الصعيد الإفريقي، شكرا لكم لأنكم أفهمتمونا حقيقة عقدة اسمها المغرب... ونحن نعلم جيدا أن بلدا دون ماضي هو بالضرورة اكثر فقرا من بلد دون مستقبل. مشكلة الجزائر ببساطة أن ليس لها ماضي المغرب.. والماضي لا يشترى !