قبل أن يجف مداد قرار عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، أصيبت صحافة الجار الشرقي بسعار جعلها تفقد عقارب بوصلتها، وهي التي كانت تطبل لـ"الانتصارات الديبلوماسية" لنظامها، فكانت صدمتها كبيرة بعودة المغرب القوية للعائلة الإفريقية.
لم يكن يخفى على أحد، اللوبيينغ الذي قامت به الجزائر من أجل تأخير عودة المغرب للاتحاد الإفريقي، فوضعت نفسها متحدثة باسم مجموعة بلدان تدعي مطالبتها بـ"رأي قانوني لبلد يريد العودة الاتحاد الإفريقي وهو محتل لأراضي دولة أخرى عضو"، ليس هذا فحسب فقد شحذت الجزائر كل أسلحتها لدفع الحضور إلى نقاش عقيم، خلال اجتماع الاثنين الماضي، لولا أن دعما إفريقيا من 39 بلدا وقف لها بالمرصاد.
وحينما فشلت الجزائر في مسعاها، حاول كل من روبير موغابي وجاكوب زوما التعبير عن تحفظات لا لشيء سوى لعيون الجزائر، فلم يكن من زعماء أربع دول إفريقية إلا الوقوف في وجههم داعين إلى مزيد من الانضباط، يتعلق الأمر بالرئيس السينغالي ماكي سال، الغابوني علي بونغو الغيني الاستوائي أوبيانغ نجيما والكونغولي ساسو نغيسو، الذين أفهموهم أن اللحظة هي لحظة نقاش بناء وليس لتعطيل النقاش بمداخلات عقيمة.
ولكي نفهم سر سعار الجزائر، لا بد أن نستوعب أن الجار الشرقي يرى في الاتحاد الإفريقي منطقة نفوذ له، منظمته التي يقرر فيها ما يريد ووقتما يريد ،مورطا معها جنوب إفريقيا، لكي يشكل هذا المحور قوة نظيرة لما تشكله فرنسا وألمانيا بالاتحاد الأوربي.
وفي ساعات قليلة، خلال اجتماع الثلاثاء الماضي، تحول التأثير المزعوم للجزائر داخل ردهات الاتحاد الإفريقي إلى إحباط كبير لدى مدللتها جبهة البوليساريو، التي تحولت إلى ابن عاق، ويكفي أن نقرأ ما جاء في المواقع الانفصالية من انتقاد لاذع للجزائر، التي "فشلت في مواجهة المغرب وعجزت عن "شراء الاصوات" بل من المواقع الانفصالية من تساءل "أين ذهبت أموال حليفنا الاستراتيجي؟".. شراء؟ الكلمة قاسية لكنها تعكس كيف كانت تجري الأمور لدى البعض...
الرؤية الإفريقية لمحمد السادس.. ثابتة من ثوابت سياسته
منذ أن اعتلى الملك محمد السادس العرش العلوي سنة 1999، تضاعف عدد الرحلات صوب إفريقيا جنوب الصحراء، لتصل إلى 46 زيارة إلى 25 بلد إفريقي، كماء جاء في خطابه بمقر الاتحاد الإفريقي.. خلال هذه الزيارات كان يصل الملك متأبطا مشاريع بنيوية تصب في رؤية استراتيجية جنوب-جنوب.
وفي القمة الإفريقية الأوربية لسنة 2000 ألغى المعرب ديون الدول الإفريقية الاقل نموا، وألغى الرسوم التعريفية الخاصة بالسلع القادمة من هذه البلدان.
سبعة عشر سنة بعد ذلك، أضحى المغرب، البلد الذي لا يتوفر لا غاز ولا بترول، ثاني مستثمر في القارة الإفريقية، نتيجة عمل دؤوب، ونتيجة رفع شعار المغرب الذي يتقاسم ما عنده، فكان تمرة ذلك ريادة إفريقية مشهود بها.
تعتمد السياسة الإفريقية لمحمد السادس على الاقتصاد كرافعة للتنمية، وليس غريبا أن نشهد أن كل جولة ملكية تعرف وفدا مهما من رجال الاعمال يرافق الملك، حاملين مشاريع نحول البلدان الإفريقية تجسيدا لرؤية إفريقية تؤمن بالقارة.
في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن الراحل محمد الخامس، كان قد جمع ذات يناير من سنة 1961 بالدار البيضاء أبرز القادة الأفارقة، على رأسهم المصري جمال عبد الناصر، وأحمد سيكو توري من غينيا، وموديبو كيتا من مالي وكوامي نكروما من غانا، فكان هذا الاجتماع أول خطوة عملية لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، التي تحولت إلى الاتحاد الإفريقي، حينها كانت الجزائر مقاطعة فرنسية، ونيلسون مانديلا كان بالمغرب من أجل جمع السلاح والتمويل لإخراج جنوب إفريقيا من نظام الأبرتايد.
محمد السادس.. أمير المؤمنين بإفريقيا
ساهم الإسلام المعتدل، الذي يروج له أمير المؤمنين في إشعاع المملكة قاريا، فيكفي القول إن الطريقة التجانية هي الطريقة الصوفية الاكثر انتشارا في إفريقيا جنوب الصحراء، فصار ضريح مؤسسها أحمد التجاني بفاس، المحج المفضل لمسلمي إفريقيا جنوب الصحراء بعد مكة.
وساهمت العاصمة الروحية للمملكة في نسج روابط متينة بين المملكة والعديد من بلدان إفريقيا الغربية، فكانت نتيجة ذلك إسلام معتدل يدعمه الملك محمد السادس بصفته أميرا للمؤمنين.
ومن تجليات دعم المغرب للإسلام المعتدل، نجد تكوين الأئمة لمحاربة التطرف، فتم تدشين معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين الدينيين سنة 2015، هذا المعهد ذو الطاقة الاستعابية التي تفوق 1200 طالب، مختص في تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات من دول كنيجيريا والكوت ديفوار ومالي وغينيا كوناكري وبعض البلدان الأوربية.
صار للمغرب إذن "قوة ناعمة" مضمونها الإسلام الوسطي الذي يرعاه الملك محمد السادس ويروج له في إفريقيا الغربية تحديدا.
المقاربة الإنسانية
ما عاد المغرب أرض عبور فقط نحو أوربا، لقد تحول في العديد من الأحيان إلى أرض استقبال، بعد أن أعطى الملك تعليماته من أجل تسوية أوضاع المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، والذين يودون في وضعية غير قانونية، إذ استفاد من هذه العملية 25 ألف شخص سنة 2014، وتم إطلاق حملة جديدة خلال 2016.
وبعيدا عن الأرقام، فالأهم من العملية هو تلك المقاربة الإنسانية، التي ترسخت بعد خطاب 20 غشت 2016، والذي جاء فيه أن "المغرب من أولى بلدان الجنوب التي تبنت سياسة تضامنية لاستقبال المهاجرين جنوب الصحراويين، ضمن مقاربة تحمي حقوقهم وتصون كرامتهم".
هذه المقاربة الإنسانية، التي تمت الإشادة بها من البلدان الإفريقية، تصادفت مع سياسة عنيفة من الجزائر التي رمت بالمهاجرين غير الشرعيين خارج حدود بلدها، بل إن مستشار بوتفليقة فاروق قسنطيني صرح أن "المهاجرين من جنوب الصحراء مسؤولون عن نشر السيدا بالبلاد".
هذه المعاملة العنيفة من الجزائر جعلت الدول الإفريقية مشدوهة بما يقترفه النظام الجزائري، حيث يقول مصدر ديبلوماسي لـLe360 "إن هذا التصرف اللامسؤول من الجزائر صدمت دول إفريقيا، على الرغم من محاولة ممثل الجزائر بأديس أبابا احتواء الوضع".
قضية الحدود مرة أخرى
في محاولة منهم لتبخيس عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، أكد مسؤولون جزائريون أنه" في الواقع انتصار جزائري، حيث أن توقيع المغرب للقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي هو اعتراف ضمني للحدود التي تركها الاستعمار، وبالتالي الاعتراف بـ"الجمهورية الصحراوية"... فماذا يقول الفصل الرابع من العقد التأسيسي للاتحاد الإفريقي؟ يقول إن الاتحاد الإفريقي يشتغل تماشيا مع احترام الحدود التي رسمت بعد الاستقلال.
ولا ضير في درس تاريخي وجيز لأصدقائنا الجزائريين، فالمملكة المغربية استعمرت من بلدين هما فرنسا في الوسط وإسبانيا في أقصى الشمال وأقصى الجنوب، فنال المغرب استقلاله عبر مراحل، أولا سنة 1956 من خلال استرجاع مناطق الوسط والشمال، وفي سنة 1958 وباستعمال القوة، أجبر السلطان محمد الخامس الجنرال فرانكو على ترك طرفاية، وفي سنة 1969 تم استرجاع سيدي إفني، والصحراء الأطلسية سنة 1975.. ببساطة فالبلد المستعمِر هو إسبانيا، والبلد الذي استرد أراضيه هو المغرب، وحينما تم تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني فقد أرجعت للمغرب وليس لكيان أنشأه الهواري بومدين بعديا.
أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، هو أنه فقط 17 بلد إفريقي من مجموع 54 بلدا يعترف بـ"الجمهورية الصحراوية" التي تتبجح بـ"عوصيتها الكاملة" بالاتحاد الإفريقي، رغم أنها لا تلقى اعتراف حتى ثلث الأعضاء. هذه "الخلطة العجيبة" نتيجة سياسة جزائرية، قرر المغرب تصحيحها دون أن ينسى ترسيخ سياسته الإفريقية، التي تتوج بتناسل للمشاريع جنوب-جنوب.. أما "جمهورية الوهم" فسينتهي بها المطاف كتمرة فاسدة سقطت من شجرة الاتحاد الإفريقي !