خلال هذا اللقاء التلفزيوني مع ثلاثة صحفيين جزائريين، تجاهل تبون بشكل كامل، وربما متعمد، ما وصفه سابقا بـ«عقيدة الجزائر»، أي «الدعم الثابت» لجبهة البوليساريو. ورغم أن الأسئلة التي وُجهت له حول وضع الدبلوماسية الجزائرية وعلاقاتها مع دول الجوار وفرت له فرصة للخوض في هذا الموضوع، إلا أنه آثر الصمت.
وبينما أُعيد بث المقابلة بعد مراجعتها بعناية، بدا واضحا أن التعليمات أعطيت للصحفيين بتفادي الحديث عن ملف الصحراء. إذ طرح أحد الصحفيين سؤالا حول «العلاقات مع دول الجوار مثل موريتانيا وتونس وليبيا»، متعمدا استبعاد المغرب، وأيضا مالي والنيجر. والأكثر لفتا أن تبون، الذي اعتاد دائما ربط القضية الفلسطينية بملف الصحراء في خطاباته، فصل هذه المرة بين الموضوعين بشكل متعمد.
هذا الصمت غير المسبوق فسّره تبون ضمنيا بالإيحاء بأن الدبلوماسية الجزائرية تعيش حالة «انتعاش» تحت إشراف وزير الخارجية أحمد عطاف. لكن ذلك يطرح سؤالا جوهريا: هل يعترف النظام ضمنا بأن قضية الصحراء أثقلت دبلوماسيته لعقود وقادته إلى عزلة دولية وإلى إنهاك داخلي اقتصادي واجتماعي؟
صحيح أن عطاف لا يعدو أن يكون منفذا مطيعا لسياسات تبون، وقد وضع كل إمكانيات الجزائر في خدمة معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، لكن استبعاد «القضية الصحراوية» من خطاب تبون الدوري يُعد معطى جديدا لا يمكن النظر إليه من زاوية النسيان، بل كإشارة إلى أن تطورات الملف تفرض على النظام تبني خطاب جديد. إنه إقرار صريح بفشل الدبلوماسية الجزائرية في هذا الملف الذي استنزف أموال الجزائريين لنصف قرن.
اليوم، يحاول النظام الجزائري إعادة تموقعه الدبلوماسي عبر استمالة الولايات المتحدة، خصوصا منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. إذ تعرض الجزائر كل ما في باطن أرضها من معادن ومحروقات للشركات الأمريكية بشروط مغرية، في محاولة يائسة لموازنة الشراكة الاستراتيجية المغربية الأمريكية، غير أن هذه الجهود تبدو بلا جدوى.
فالإدارة الأمريكية الحالية، على لسان الرئيس ترامب، كانت قد اعترفت رسميا في دجنبر 2020 بمغربية الصحراء. كما أن مستشاره البارز، مسعد بولس، جدد مرارا التأكيد على أن مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هي الحل الواقعي الوحيد لإنهاء النزاع. وفي تصريح لجريدة «الوطن» الجزائرية عقب زيارته إلى الجزائر يوم 27 يوليوز الماضي، شدد بولس على أن المقترح المغربي يمثل «الأساس الوحيد لحل عادل ودائم». وقد أعاد التأكيد على ذلك لعطاف خلال لقائهما الأخير على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
من جهته، سجل ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، نقطة مهمة حين أعلن نائب وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر لاندو، بعد لقائهما في نيويورك، أن بلاده تشجع المستثمرين الأمريكيين على ضخ استثماراتهم في الأقاليم الجنوبية المغربية، قائلا: «الولايات المتحدة اعترفت بسيادة المغرب على الصحراء، وفي إطار مبادراتنا للدبلوماسية الاقتصادية، نحن سعداء بتشجيع الشركات الأمريكية الراغبة في الاستثمار بهذه المنطقة».
يبقى السؤال: هل أراد تبون من خلال صمته أن يلمح إلى أن الجزائر لن تعرقل الدفع الأمريكي لإغلاق هذا الملف؟ وهل يسعى النظام، الذي يمر بأخطر مراحله منذ الاستقلال، إلى إنقاذ نفسه عبر التخلي عن عقود من العداء المستحكم تجاه المغرب؟
من المبكر الحسم في الأمر، لكن المؤكد أن تبون ما كان ليغفل عن ترديد أسطوانة «آخر مستعمرة في إفريقيا» لولا أن خطرا داهما يهدد أركان نظامه. والأيام المقبلة كفيلة بكشف المستور.








