كيف ابتزت الجزائر فرنسا بصحفي مقابل عميل سري.. وما الدور الخفي لمهدي غزار في شبكة النفوذ؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برفقة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون

في 13/12/2025 على الساعة 10:44

فيديوأقام النظام الجزائري الدنيا ولم يقعدها بسبب إيقاف الشرطة الفرنسية للجزائري المدعو مهدي غزار مساء الثلاثاء 9 دجنبر. منذ ذلك اليوم والنظام العسكري قد كشر عن أنيابه وشن حربا شرسة عبر أذرعه الإعلامية -الرسمية وغير الرسمية- ضد فرنسا، على الرغم من أن الشرطة أطلقت سراح غزار بعد ساعات من استجوابه. ماذا وراء كل هذه الضجة؟

انفجار الأزمة بعد توقيف غزار، واندفاع الجزائر إلى الهجوم بشكل هستيري بدل الاكتفاء ببلاغات دبلوماسية روتينية، يكشف خللا عميقا. فالمعني ليس « صحفيا » أو «محللا» كما تقدمه وكالة الأنباء الجزائرية، بل هو في الحقيقة مسجل لدى السلطات الفرنسية باعتباره «عميلا سريا» يعمل لصالح الجزائر.

وفقا للوكالة، تم القبض على غزار من قبل الشرطة الفرنسية بالقرب من منزله. وأبلغته قوات الأمن أنه مسجل في ملف «S» وكذلك في ملف الأشخاص المطلوبين، وهما نظامان يستخدمان لمراقبة الأفراد الذين يشكلون تهديدا للأمن العام.

أُطلق سراح مهدي غزار في نهاية المطاف بعد بضع ساعات. وصرح لقناة AL24 News الإخبارية الرسمية، التي يتعاون معها، بأنه «احتُجز لعدة ساعات من قبل الشرطة الفرنسية قبل أن يُطلق سراحه صباح الأربعاء 10 دجنبر».

بعد إطلاق سراحه، زادت الوكالة المتخصصة في نشر الأكاذيب من جرعة السعار ضد فرنسا، حيث هاجمت القضاء والأجهزة الأمنية وعلى رأسها وزير الداخلية لوران نونيز الذي اتهمته بـ«استخدام نفس الأساليب التي كان يستخدمها برونو ريتايو».

وروجت وسائل الإعلام الناطقة باسم النظام، على نطاق واسع، خطاب المظلومية التي لا تبرع في غيره، مدعية على لسان مهدي غزار أنه «يتعرض لضغوط وترهيب من قبل عناصر الشرطة الفرنسية على الحدود منذ أشهر»، مضيفة أنه «يتم احتجازه بشكل منهجي عند مروره بمطارات باريس».

وإذا كانت السلطات الفرنسية تلتزم الصمت حاليا بشأن أسباب ملاحقة المدعو مهدي غزار، فإن مصادر إعلامية فرنسية رجّحت ضلوعه في سلسلة عمليات نفوذ وتصفية حسابات تتجاوز حدود فرنسا.

ابتزاز دولة

المنعطف الحقيقي جاء مع ما كشفه الصحفي محمد سيفاوي. ففي فيديو مطول، كشف الجزائري المقيم في فرنسا عن عملية ابتزاز حاولت فيها الجزائر مقايضة فرنسا.

وروى الصحفي الاستقصائي سيفاوي تفاصيل ما وصفه بـ«خبايا العملية الدبلوماسية الجزائرية الجديدة»، مؤكدا أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أقحم نفسه شخصيا في عملية «ابتزاز دولة» بعدما قايض السلطات الفرنسية بالإفراج عن الصحفي الفرنسي كرسيتوف غليز المعتقل في الجزائر بتهمة «الإشادة بالإرهاب»، مقابل إغلاق الملف الذي تورطت فيه الدبلوماسية الجزائرية على خلفية التخطيط والمساهمة في محاولة اغتيال المعارض الجزائري أمير بوخرص الملقب بـ«أمير دي زاد».

الصحفي الرياضي كريستوف غليز حل بالجزائر في ماي 2024 من أجل تغطية مباراة رياضية لفريق شبيبة القبائل، غير أن سلطات النظام العسكري اعتقلته بتهمة «الإشادة بالإرهاب» وأدانته بالسجن 7 سنوات.

سيفاوي لم يكن وحده من كشف عن محاولة الابتزاز هاته التي حولت -حسبه- الصحفي كريستوف غليز إلى «رهينة» للي ذراع فرنسا، بل إن المعارض هشام عبود ذهب أبعد من ذلك حين كشف هو الآخر بأن «نظام العرايا» (كما يصفه دائما)، « قايض صحفيا فرنسيا بعميل سري جزائري».

وأوضح عبود عبر قناته على «يوتيوب» أن الجزائر اشترطت على فرنسا أن تفرج عن إسماعيل رجب، وهو مساعد في جهاز الأمن العسكري الجزائري وموظف غير معلن في القنصلية الجزائرية في كريتيل، أوقف في أبريل 2025 على خلفية قضية اختطاف المعارض الجزائري أمير ديزاد.

حجم الغضب الجزائري بعد توقيف غزار ينسجم تماما مع سياق الابتزاز الذي تحدث عنه سيفاوي وعبود. ففرنسا، وفق المعطيات، رفضت المساومة، وأصرت على استقلال القضاء، ما جعل خطاب الجنرالات ينفجر مجددا في حملة هستيرية ضد باريس.

لكن ما علاقة مهدي غزار بملف أمير بوخرص الذي أربك العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد أن أدت التحقيقات الفرنسية إلى الكشف عن أدوار مباشرة لمسؤولين جزائريين، بينهم دبلوماسيون وعناصر أمنية.

غزار ومحاولة اغتيال أمير دي زاد

الشرارة التي أعادت الربط بين كل الخيوط جاءت من مجلة «لوبوان» الفرنسية، التي كشفت أن توقيف مهدي غزار مرتبط مباشرة بقضية محاولة اغتيال أمير دي زاد، واصفة إياه بأنه «أقرب المقربين من الرئيس عبد المجيد تبون»، وأنه يشغل مهمة غير معلنة داخل الرئاسة.

وبحسب المقال الذي حرره الصحفي الجزائري فريد عليلات، فإن التحقيقات الفرنسية رسمت خريطة مسؤوليات تورط فيها سفير الجزائر بباريس ونائبه وعدد من الشخصيات الرسمية، مضيفا أن الملف، الذي أثار ضجة دولية كبيرة، وصل إلى مرحلة إصدار مذكرة توقيف دولية ضد دبلوماسي جزائري سابق.

ومن المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة بدء محاكمة المشتبه بهم في اختطاف المعارض أمير دي زاد فوق الأراضي الفرنسية، ما يفسر حالة الهستيريا الرسمية التي أعقبت توقيف غزار، وهو ما يؤكد أن توقيف هذا الأخير هو جزء من سلسلة تطورات مترابطة وليست حادثا منفصلا.

محامون يتهمون الجزائر بازدراء القانون

نددت هيئة دفاع المعارض الجزائري أمير دي زاد بما وصفته «مساعي السلطات الجزائرية لمقايضة الإفراج عن المواطن الفرنسي كريستوف غليز بمنح حصانة لعملاء استخبارات جزائريين متورطين في الاعتداء على أمير ديزاد فوق التراب الفرنسي»، مؤكدة أن هذا السلوك يعكس «ازدراء الدكتاتورية العسكرية في الجزائر للقانون ولمبادئ العدالة الديمقراطية».

وقال المحامي إيريك بلوفييه، في بيان باسم هيئة الدفاع، إن الوقائع التي تعرض لها موكله «ليست قابلة للتأويل أو التشكيك»، مشددا على أن مبدأ استقلال القضاء في فرنسا «ليس قابلا للمقايضة».

وختم المحامي بلوفييه بيانه بالتأكيد على ضرورة ألا تخضع أي سلطة فرنسية لما سماه «الابتزاز الدنيء» الذي تمارسه الجزائر، وأن يسمح التحقيق «عاجلا أو آجلا» بتحديد سلسلة الأوامر وإثبات المسؤوليات.

وهكذا زاد موقف المحامين الوضع وضوحا. هذه المواقف تبرهن على أن باريس أدركت حجم الانزلاق الدبلوماسي الذي حاولت الجزائر دفعها إليه.

غزار وتحريض «المجاهدين»

في تلك الليلة التي كان يستجوب فيها مهدي غزار من قبل الشرطة الفرنسية، غرد شوقي بن زهرة، المعارض الجزائري اللاجئ في فرنسا، على حسابه على منصة X، معلنا «اعتقال» من وصفه بـ«وكيل نفوذ النظام الجزائري في باريس».. مذكرا بأن غزار كان ضمن المتورطين في تحريض الجالية الجزائرية في الخارج حيث دعاهم إلى أن «يجاهدوا» ضد كل من يعارض النظام الجزائري.

وأرفق الناشط بن زهرة تغريدته بمقطع فيديو يظهر فيه غزار، حين كان «مذيعا» في إذاعة RMC بفرنسا... وهو يدعو الجالية الجزائرية في الخارج لكي يصبحوا «مجاهدين 2.0».

وبالفعل، تسبّب هذا الخطاب التحريضي لاحقا في إطلاق حملات كراهية واسعة شارك فيها «مؤثرون» محسوبون على نظام. وأكد بن زهرة أن غزار هو من كان ينسق بين هؤلاء المتزلفين لنظام العسكر، حيث ينقل إليهم التعليمات الصادرة من قصر المرادية بالجزائر.

في مطلع العام الجاري، قاد شوقي بن زهرة حملة ضد هؤلاء «المجاهدين» الافتراضيين، وجمع الكثير من المقاطع المصورة التي استهدفت المعارضين المقيمين في فرنسا وترجم محتواها إلى اللغة الفرنسية ثم رفع شكايات لدى الشرطة الفرنسية، ما أدى إلى اعتقال عدد من هؤلاء «المؤثرين» ومحاكمة بعضهم، وترحيل آخرين.

هذا المعطى عزز القناعة لدى الأجهزة الفرنسية بأن غزار ليس مجرد إعلامي، بل عنصر تعبئة ضمن شبكة نفوذ تشتغل فوق التراب الفرنسي.

مهدي غزار.. من رجل أعمال إلى وكيل تبون

يروي الإعلامي الجزائري هشام عبود مسارا مغايرا للصورة «الصحفية» التي يتقمصها مهدي غزار. فهذا الأربعيني، وهو نجل شخصية دبلوماسية، بدأ حياته في باريس كرجل أعمال يملك مطاعم ومرآبا وعقارات فاخرة.

وحكى عبود كيف تحول غزار من رجل أعمال إلى وكيل للنظام العسكري في جبة «صحفي» يؤطر جيش «المؤثرين» الموالين للنظام ويحرضهم ضد المعارضين.

هذا التغير الجذري في مسار غزار، وفق ما يرويه عبود، بدأ بعدما ارتبط اسمه برجل الأعمال والملياردير الفرنسي باتريك دراحي، الذي وظفه في قناة RMC ومن تم بدأت شهرته في برنامج Les grandes gueules، حيث استغل المنبر الصحفي وشرع يهاجم المغرب والمغاربة ويطلق تصريحات ذات طابع عدائي ضد المملكة، واستمر في نهجه إلى غاية غشت 2024، إذ تلقى ضربة قاضية بعدما تم استبعاده من القناة بسبب «تصريحات غير مقبولة» استهدفت المغرب وأثارت ضجة في أوساط بعض السياسيين الفرنسيين.

وحسب مجلة Le Point، فإن مهدي غزار، رجل الأعمال الأربعيني الذي يُعتبر أحد الوسطاء غير الرسميين للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، اقترب بعد ذلك من الدائرة الرئاسية الجزائرية لدرجة أنه قاد حملة عبد المجيد تبون في فرنسا خلال انتخابات سبتمبر 2024، وهو ما تصفه المجلة الفرنسية بأنه نقطة انطلاق لنشاط نفوذ مستمر لصالح السلطة.

وشوهد مهدي غزار وزوجته هناء بوعكاز وهما ينشطان بشكل خاص في فرنسا خلال الحملة الانتخابية للمرشح تبون للانتخابات الرئاسية التي جرت في 7 سبتمبر 2024.

ويبدو أن نظام تبون قد كافأ غزار على «التشيات» (التزلف) الذي بالغ فيه، حيث تم، حسب Le Point، إلحاقه بعد ذلك إلى قناة ALG 24 News، وهي قناة تخضع لإشراف مباشر من إدارة الإعلام بالرئاسة، حيث يقدم برنامجا حواريا شديد اللهجة ضد المغرب وفرنسا، بينما ينقل الخط الرسمي للجزائر. ويذكر المقال أنه اقترب بعد ذلك من كمال سيد سعيد، مدير الإعلام المقرب من الرئيس تبون.

وكتبت مجلة Le Point أن غزار ألمح إلى أنه حصل على منصب مسؤول مهم لدى الرئاسة بموجب مرسوم غير قابل للنشر. كما أوردت المجلة حادثة رمزية عن نفوذه الجديد: خلال صيف 2024، كان قد عمل كوسيط مع الرئاسة الجزائرية والبنك المركزي الجزائري لإلغاء تجميد جزء من الأرباح التي كانت شركة CMA CGM — التي يديرها رودولف سعادة — تحتفظ بها في البلاد.

ماذا وراء العاصفة؟

ما جرى ليلة 9 دجنبر لم يكن حادثا عابرا، بل انكشافا لطبقات عميقة من التوتر بين باريس والجزائر. فحرب البيانات التي أطلقها النظام لم تكن دفاعا عن « صحفي »، وإنما محاولة لحجب الحقيقة: فرنسا وضعت يدها على خيط يقود إلى شبكة نفوذ، وإلى عملية ابتزاز دبلوماسي مرتبطة بقضية محاولة اغتيال المعارض أمير دي زاد، قد تتدحرج إلى فضيحة دولة كاملة الأركان.

والأشهر المقبلة، مع اقتراب محاكمة المتورطين في محاولة اغتيال المعارض الجزائري، ستكشف ما إذا كان النظام سيظل يصرخ في كل اتجاه… أم أن الحقائق التي ستحملها قاعات المحاكم ستكون أقوى من أي « بروباغندا ».

تحرير من طرف ميلود الشلح
في 13/12/2025 على الساعة 10:44