«شهادة الحلال» في خدمة العسكر
كشف تحقيق أجرته مجلة لوبوان الفرنسية عن استغلال النظام الجزائري لمسجد باريس الكبير كواجهة للاغتناء عبر « شهادة الحلال »، التي تمنحها شركة GMPH Grand Mosque of Paris التي يديرها عميد المسجد شمس الدين حفيظ.
حسب المجلة الفرنسية فإنه منذ يونيو 2023، أصبحت هذه الشهادة شرطا أساسيا لأي شركة أوروبية ترغب في تصدير منتجاتها الحلال إلى الجزائر. هذه العملية، التي تدر أرباحا طائلة للنظام الجزائري، تفرض رسوما تصل إلى 0.15 يورو للكيلوغرام الواحد، وهي « قابلة للتفاوض »، حسب الخبراء الذين تحدثوا إلى « لوبوان ».
هذه الخطوة أثارت غضب المنتجين الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم رهائن لهذه الشهادة. ويعد هذا الإجراء انتهاكا صارخا لقواعد المنافسة الأوروبية ومحاولة لاحتكار سوق الحلال بشكل غير عادل.
تحقيقات فرنسية تهدد النفوذ الجزائري
لم يقتصر الأمر على الفضائح الاقتصادية والسياسية لشمس الدين حفيظ، بل بدأت السلطات الفرنسية تحقيقات شاملة في مصادر تمويل مسجد باريس الكبير وعلاقاته بالنظام الجزائري. وتهدف هذه التحقيقات، حسب وسائل إعلام فرنسية، إلى قطع نفوذ الجزائر داخل الأراضي الفرنسية واستعادة السيطرة على المسجد.
وذكرت مصادر إعلامية أن هذا التحقيق أمر به وزير الداخلية، برونو ريتيليو، الذي طلب بنفسه إجراء تدقيق كامل للشؤون المالية وعلاقات المسجد الكبير في باريس مع النظام الجزائري، سعيا لسحب البساط من تحت أقدام النظام الجزائري من خلال قطع رأس جميع مراكزه المنظمة على الأراضي الفرنسية.
وفي مواجهة هذه التحقيقات، وجد شمس الدين حفيظ نفسه في موقف حرج، حيث يحاول جاهدا « إنقاذ جلده »، وفق ما نقلته وسائل الإعلام الفرنسية. لكن النظام الجزائري، الذي يبدو مترددا في دعمه، فضل الابتعاد عنه لتجنب المزيد من التورط.
المحامي شمس الدين، الذي تربطه بالرئيس عبد المجيد تبون علاقة مصلحية جلية بالنظر إلى لقاءاتهما المتكررة منذ انتخابه عميدا لمسجد باريس في يناير من عام 2020، بات اليوم مثل شخص موبوء يتحاشى الجميع ملاقاته وحتى الرد على اتصالاته، وفق ما أوردته بعض وسائل الإعلام نقلا عن مصادر وصفتها بالموثوقة.
الدعاء لفرنسا: محاولة لتلميع الصورة
بعدما افتضحت الأدوار السياسية والتجارية التي كان يسديها عميد مسجد باريس الكبير في الخفاء لصالح نظام العسكر الحاكم في الجزائر، عاد شمس الدين ليستغل سلطته الدينية من خلال حث الأئمة التابعين للمسجد ذاته طالبا منهم الدعاء لفرنسا في نهاية خطب الجمعة. وجاء ذلك عبر رسالة وجهها الخميس الماضي إلى 150 إماما تابعين للمسجد الكبير في فرنسا. وطلب شمس الدين حفيظ من خطباء الجمعة « تلاوة أدعية باللغتين العربية والفرنسية في نهاية خطبة كل يوم جمعة ».
وجاء في الرسالة أن الدعاء المقترح هو: « اللهم احفظ فرنسا وكل شعبها ومؤسسات الجمهورية واجعل فرنسا بلدا آمنا مطمئنا تتعايش فيه كل الجالية الوطنية بمختلف فئاتها وطوائفها في أمن وسلام ».
وادعى هذا المحامي المتأسلم بأن الخطوة تندرج في إطار « تنفيذ مشروع تكييف الخطاب الديني الإسلامي في المجتمع الفرنسي الذي بدأه المسجد ».
هذه الخطوة أثارت غضب الكثير من الجزائريين الذين رأوا فيها استغلالا فاضحا للدين من طرف عميد المسجد بغاية تلميع صورته التي تلطخت بالأعمال القذرة التي كان يضمرها في الخفاء.
وقال محمد العربي زيطوط، الناشط السياسي الجزائري اللاجئ في بريطانيا، إن هاته الخطوة التي وصفها بـ« المذلة » لا يمكن أن تكون من تلقاء نفسه، بل بإيعاز من النظام العسكري الحاكم في الجزائر.
وأوضح زيطوط أن المخابرات الجزائرية تتحكم في عميد مسجد باريس عن طريق العقيد محمد ورنوغي، وقد أوعز له النظام بهذه الفكرة بعدما خسر جميع أوراقه في صراعه أمام فرنسا، ولم يبق للجنرالات أن يجربوا سوى الدعاء لاستعادة علاقاتهم المتدهورة مع المستعمر السابق.
النظام العسكري وصراع النفوذ
مع تدهور العلاقات بين الجزائر وفرنسا بسبب دعم باريس لمغربية الصحراء، بات واضحا أن النظام الجزائري يستخدم كل الأدوات المتاحة، بما في ذلك الدين، لتعزيز نفوذه في فرنسا. لكن الفضائح التي كشفت عنها وسائل الإعلام الفرنسية، من تجارة « الحلال » إلى استغلال المنابر الدينية، أظهرت الوجه الحقيقي لهذا النفوذ، الذي يبدو أنه يواجه الآن رياحا معاكسة.
إن فضيحة شمس الدين حفيظ ليست مجرد قضية فردية، بل هي انعكاس لاستراتيجية نظام العسكر الجزائري في استخدام الدين لتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية. ومع تصاعد التحقيقات الفرنسية، يبدو أن النظام الجزائري قد يجد نفسه مجبرا على إعادة حساباته في مواجهة تداعيات هذه الفضيحة.