على نطاق واسع ومبالغ فيه، روجت وسائل الإعلام الجزائرية أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون « أمر، خلال ترؤسه اجتماعا لمجلس الوزراء، الأحد 20 أكتوبر 2024، بإطلاق مناقصة دولية لإنتاج وإخراج فيلم عالمي حول الأمير عبد القادر ». وبخلاف الإشادة التي حظي بها القرار من طرف وسائل الإعلام التابعة للنظام الجزائري، فإنه ووجه بسخرية عارمة في أوساط جزائريين يرون في الأمر تضييعا لأموال الشعب في وقت تئن فيه البلاد والعباد تحت وطأة الأزمات.
وعلى الرغم من أن مجلس الوزراء خصص لتدارس قضايا أخرى تهم عدة مجالات، إلا أن وسائل الإعلام الجزائرية ركزت فقط على النقطة المتعلقة بالفيلم « العالمي » حول الأمير عبد القادر، حيث روجت لهذا « الأمر الرئاسي » وكأنه إنجاز ضخم يستحق التهليل به عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
فيلم على المقاس
يبدو أن الرئيس تبون يسعى لإنتاج فيلم يتماشى مع رؤيته الخاصة، ويروّج لصورة الجزائر العالمية، إلا أن طرح مناقصة دولية لهذا الغرض يثير الشكوك حول نية الحكومة في تقديم عمل فني حقيقي. فالسينما، كونها فنا يعتمد على الإبداع والتفرد، لا تخضع لمنطق المناقصات مثلما يحدث في المشاريع التجارية أو الإنشائية. هذا القرار يجعل البعض يتساءل عما إذا كان الهدف من المشروع هو تقديم عمل سينمائي ذي قيمة، أم مجرد مشروع سياسي آخر يُستغل لتلميع صورة النظام على المستوى المحلي والدولي.
سخرية شعبية من توقيت المشروع
الجزائريون لم يخفوا سخريتهم من توقيت هذا المشروع « العالمي »، إذ تعددت ردود الفعل الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث استغرب العديد من الجزائريين تخصيص موارد مالية ضخمة لمشروع سينمائي في وقت تعاني فيه الجزائر من نقص حاد في البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس.
وتعليقا على ذلك، كتب المواطن رشيد موسى تعليقا في الصفحة الفيسبوكية لجريدة « البلاد »: « كان الأجدر بكم بناء مستشفى بدل تبذير المال العام في فيلم.. فذلك هو ما سيسعد الأمير عبد القادر في مرقده ».
من جهة أخرى، عبرت ليليان تالين عن استغرابها من خلال تعليق تقول فيه: « يحدث هذا في الوقت الذي تدعون فيه أنكم تنتهجون سياسة التقشف وإعطاء الأولوية لما سيعود على الشعب بالفائدة.. أما الفيلم فلن يستفيد من أمواله الضخمة سوى المُخرج ».
أحد أبرز التعليقات الساخرة جاء من المواطن عبد السلام رايا، حيث ركز على المغالطة التي سبق أن روج لها الرئيس عبد المجيد تبون حين صرح بأن « جورج واشنطن أهدى للأمير عبد القادر مسدسات هي الآن محفوظة بمتاحف الجزائر »، رغم أن التاريخ يؤكد استحالة حدوث ذلك نظرا لكون الزعيمين لم يسبق لهما أن التقيا لأن الأول توفي (1799) قبل 9 سنوات من ولادة الثاني (1808). كتب هذا المواطن تعليقا لاذعا يتساءل فيه: « هل سيظهر في الفيلم جورج واشنطن وهو يسلم مسدسه للأمير عبد القادر؟
مشروع محاط بالغموض
كثير من المتتبعين للشأن الذي تدار به البلاد من طرف الطغمة العسكرية، يدركون جيدا بأن الأمر مجرد استعراض جديد من الرئيس الذي يتحدث أكثر مما يعمل. إذ ليست هذه أول مرة يخصص فيها تبون مجلسا للوزراء للحديث عن إنتاج فيلم حول الأمير عبد القادر الجزائري، إذ سبق له ذلك في غشت من عام 2021. ومع ذلك، لا يزال هذا المشروع محاطا بالغموض السياسي والثقافي في الجزائر.
في الحقيقة، تعود جذور الفكرة إلى عام 2012، حيث تم رصد ميزانية ضخمة لهذا الإنتاج، وتم اختيار مخرج أمريكي للإشراف على الفيلم. لكن على الرغم من هذه الخطط، لم يتم تصوير أي مشهد حتى الآن، ولم يتم الكشف عن مصير الميزانية الضخمة المرصودة لهذا المشروع.
تمثال بميزانية ضخمة
إلى جانب الفيلم، أعلنت السلطات الجزائرية في إبريل 2023 عن قرار بناء تمثال ضخم للأمير عبد القادر الجزائري في أعالي تلة تطل على مدينة وهران غربي الجزائر، بكلفة تناهز تسعة ملايين يورو.
وحسب ما تروج له وسائل الإعلام التابعة للنظام الجزائري، فمن المقرر أن يكون هذا التمثال الأعلى في العالم بارتفاع 42 مترا، متفوقا بثلاثة أمتار على تمثال « المسيح الفادي » في ريو دي جانيرو بالبرازيل.
يذكر أن الأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883) هو أحد أبرز رموز المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. بعد أن أسره الفرنسيون، نُفي إلى فرنسا ثم إلى دمشق، وهناك توفي، لكن رفاته نُقل إلى الجزائر في عام 1966 بناء على توجيهات الرئيس هواري بومدين، ليُدفن في أرض الوطن. ويحتفي به النظام الجزائري اليوم باعتباره « مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ».
ومع كل هذه المشاريع الرمزية، تتساءل شريحة كبيرة من الجزائريين عن مدى استفادة الشعب من مثل هذه الاستثمارات، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
أولويات النظام الجزائري؟
في ظل هذه المشاريع الرمزية التي يروج لها النظام الجزائري، يتصاعد شعور الإحباط بين الجزائريين الذين يرون أن الأولويات الحقيقية للبلاد يتم تهميشها لصالح استعراضات ثقافية وسياسية لا تخدم احتياجاتهم الأساسية.
وبينما يعاني المواطنون من نقص في البنى التحتية وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، يبدو أن النظام العسكري الحاكم يواصل توجيه موارد البلاد نحو مبادرات دعائية تعزز صورته أمام الرأي العام المحلي والدولي، دون الالتفات إلى مشكلات البطالة والتنمية التي تعصف بالمجتمع الجزائري.
هذا التناقض الصارخ بين ما يحتاجه الشعب وما يتم تنفيذه فعليا يعمق الفجوة بين الحاكمين والمحكومين، ويزيد من مشاعر السخط واليأس لدى الجزائريين الذين يتوقون إلى رؤية تغيير حقيقي يعكس طموحاتهم وأولوياتهم.