« القول شامخ والفعل ركام »، هذه المقولة تعكس سياسة الدولة الوحيدة التي تنهجها جارتنا الشرقية. إن رد الفعل المتناقض للنظام القائم، الذي يتباهى بدعمه غير المشروط لفلسطين، إزاء الأحداث المأساوية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، يطرح أكثر من علامة استفهام. إذا كان صمت السلطات الجزائرية، في أعقاب هجمات حماس ضد إسرائيل ورد فعل القوات الإسرائيلية ضد غزة، مريبا، فإن ردود الفعل الخجولة والمتأخرة، التي حدثت في الأيام الأخيرة، تكشف عن ضعف كبير. وهكذا تم فرض حظر رسمي على مظاهرات الدعم للفلسطينيين وأبان النظام عن عجز تام عن القيام بأي عمل دبلوماسي على المستوى الدولي. نحن بعيدون جدا عن البهرجة التي وقعت في أكتوبر 2022، عندما وعد الرئيس تبون بتوحيد صفوف الفصائل الفلسطينية التي دعاها إلى الجزائر العاصمة...لكنه في النهاية فشل فشلا ذريعا.
بالنسبة للنظام، كل ما تبقى هو ضرورة الحفاظ، داخليا، على الوضع الراهن الهش الذي تهدد المظاهرات بنسفه. لمنع هذا الأمر، كل الوسائل مباحة. والمضحك في هذا الباب هو أن كل وسائل النقل العمومية تعللت دفعة واحدة يوم الجمعة 13 أكتوبر بأعطاب ومشاكل الصيانة وغيرها من الأعذار الوهمية، وذلك لأن الجزائريين اتفقوا على الالتقاء في وسط مدينة الجزائر العاصمة من أجل التظاهر دعما للشعب الفلسطيني. وهكذا توقفت فجأة الحافلات والطرام والمترو. لم نر قط وسيلة أكثر جذرية لوقف تدفق المتظاهرين.
وكل من تجرأ على تحدي الحظر تم اعتقاله بكل بساطة. في بلد يخفي فيه النظام كل عدم شرعيته خلف حجاب الدعم الزائف لتحرير الشعوب، أصبح فجأة رفع ولو ما يشبه العلم الفلسطيني جريمة. والدليل على التأخر في رد الفعل، كان علينا أن ننتظر حتى أمس الثلاثاء 18 أكتوبر، بعد عشرة أيام من اندلاع الصراع الجديد بين إسرائيل وحماس، والذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 3000 وإصابة 12500 في قطاع غزة مقابل 1400 قتيل من الجانب الإسرائيلي، لتدعو الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وما تبقى من المجتمع المدني، مدفوعة من النظام، إلى تنظيم مسيرة « شعبية »... غدا الخميس. سنرى ما إذا كانت ستنظم. وسنرى قبل كل شيء بأي طريقة.
تأخر في رد الفعل
في بلاغ موقع بشكل خاص من قبل جبهة التحرير الوطني وذراعها النقابي الاتحاد العام للعمال الجزائريين، يدعو هذان التنظيمان، التابعين تماما للسلطة القائمة، إلى مسيرات شعبية يوم الخميس في جميع ولايات البلاد. كما تم الإعلان عن مسيرة في الجزائر العاصمة، وليس هناك شك في أنها ستكون مطوقة. وفي انتظار ذلك، تكون الجزائر قد تميزت بكونها الدولة العربية والإسلامية الوحيدة، بل واحدة من الدول القليلة في العالم بعد فرنسا، التي حظرت حتى الآن المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني.
علامة أخرى على التناقض المذهل لنظام متداع فيما يخص شعار « حكمه »، كان علينا أيضا أن ننتظر حتى يوم الاثنين 16 أكتوبر حتى يخرج عبد المجيد تبون، القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع الوطني، من سباته ويترأس اجتماعا للمجلس الأعلى للأمن خصص للقضية الفلسطينية. والقاعدة هي أن مثل هذا الاجتماع، الذي يعقد بشكل طبيعي بحضور جميع كبار ضباط الجيش، بما في ذلك القائد والرجل القوي الحقيقي للنظام سعيد شنقريحة، يجب أن يتمخض عنه قرارات كبرى ومواقف قوية يكون لها أثر كبير. ونتذكر أنه في نهاية لقاء من هذا النوع، أعلنت الطغمة العسكرية قطع الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب من جانب واحد وإغلاق مجالها الجوي.
لكن ماذا قرر النظام هذه المرة فيما يتعلق بغزة؟ أن « الجزائر تعبر عن رفضها للعمليات التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، ضد المدنيين العزل وتعلن تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني الشقيق. مع قناعتها التامة بأن الحل الجذري لا يكمن في الإبادة ولا الترحيل الجماعي، ولكن بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف على حدود يونيو 1967″، يؤكد البيان الصحفي. وهذا كل ما في الأمر. وبالتالي، فهو مجرد ترديد لأسطوانة قديمة التي لا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تساهم حتى في بداية الحل، بل وتكشف أيضا عن العجز التام لـ « النظام » عن الفعل للدفاع عن عقيدته الخاصة.
هذا الموقف له اسم: الخوف. الخوف من رؤية المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين تتحول إلى حلقة جديدة من الحراك الشعبي ضد النظام. نفس الأمر وقع عندما أغلقت ملاعب كرة القدم لفترة طويلة جدا أمام الجمهور، كما أن زيارات عبد المجيد تبون داخل بلده يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة... وبالطائرة. وعندما نعلم أنه حتى في البرتغال، في شهر ماي الماضي، تم استقبال الرئيس الجزائري بالبيض من قبل الجالية الجزائرية في المهجر، فمن السهل أن نتخيل المصير الذي سينتظره إذا غامر وغادر أسوار المرادية أو مقر إقامته. في كل هذه المواقف، الخوف هو سيد الموقف.
« إن قلق السلطات الجزائرية يكمن في أمر آخر. تشهد البلاد توترات قوية على رأس هرمها، الذي من الواضح أنه لا يستطيع السيطرة على المظاهرات التي يمكن أن تطيح بالنخبة السياسية والعسكرية القائمة. القضية الفلسطينية هي أداة لتخدير الرأي العام وتحقيق مصالح انتهازية وظرفية »، يوضح محمد بودن، محلل سياسي ومتخصص في قضايا الشرق الأوسط.
منع عودة الحراك
« إن الاهتمام الرئيسي للنظام هو منع مثل هذه المظاهرات من أن تكون بمثابة متنفس للجزائريين وذريعة للاحتجاج ضد النظام. يريد تبون وشنقريحة، بأي ثمن، منع عودة الحراك، الذي بدأ في فبراير 2019. وهم يعلمون أن التعبئة مازالت قائمة. وتبون، الذي راكم العديد من الإخفاقات وفي خضم الصراع مع الجيش، لن ينجو في حالة عودة الحراك »، يؤكد من جانبه المحلل السياسي مصطفى السحيمي.
ويؤكد هذا الأخير أن الجزائر في ظل الثنائي تبون-شنقريحة راكمت الإخفاقات في سنة واحدة. ولم تكن ذروة هذا الانحدار إلى الجحيم سوى الفشل في الالتحاق بمجموعة بريكس. وقال مصدرنا: « وحتى التأثير في قضايا مهمة مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أصبح صوت الجزائر، التي تشهد تراجعا غير مسبوق لنفوذها، غير مسموع ». في حين يؤكد محمد بودن أن « الجزائر لا تقدم أي مساعدة ملموسة للفلسطينيين، حتى في أوقات السلم، في مجال التعليم أو الصحة أو الإسكان، كما يفعل المغرب على سبيل المثال، ولكنها أيضا لم تعد لديها أي وسائط لكي تسمع صوتها. على العكس من ذلك، فهي تقضي وقتها في انتقاد الدول التي لديها القدرة على التفاعل مع إسرائيل بدلا من انتقاد إسرائيل ».
إن ما يراه الجزائريون، أو العالم، في هذا التناقض لا يهم النظام القائم. سيكون من المثير للاهتمام أيضا أن نرى كيف أن التمثيليات الديبلوماسية الأجنبية الموجودة في الجزائر تستمتع بهذا المستوى من التناقض بين ردود الفعل الصبيانية وعقيدة الطغمة العسكرية الحاكمة، عقيدة قائمة على شعارات معادية للسامية وأسطوانة مفادها أن القضية الفلسطينية هي « قضية » الجزائر والرئيس تبون نفسه.