الجزائر: كيف حولت شعبوية تبون «منحة السفر» إلى «محنة» خطيرة على البلاد

صورة مركبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وخلفه عملة الدينار الجزائري

في 19/12/2025 على الساعة 08:00

فيديوتحولت منحة السفر في الجزائر، التي سوقها الرئيس عبد المجيد تبون كإجراء اجتماعي لفائدة المواطنين، إلى «محنة» تعمق الوضع الاقتصادي المرتجل، بعدما فجرت موجة غير مسبوقة من التحايل، واستنزفت احتياطات العملة الصعبة، وكشفت هشاشة منظومة الرقابة، وعرت غياب أي رؤية استراتيجية في تدبير ملف حساس يمس السيادة المالية وأمن الحدود. فالجزائر التي تعاني أصلا من اقتصاد ريعي وسوق صرف موازية متوحشة، اختارت ضخ ملايين اليوروهات في مسار غير منتج، ظنا منها أنها تشتري هدوءا اجتماعيا مؤقتا، لكنها فتحت في المقابل أبواب الجحيم على مصراعيها.

استفاقت الجزائر مع نهاية عام 2025 على وقع تخبط مالي وأمني غير مسبوق، إثر التداعيات السلبية لقرار رفع منحة السفر إلى 750 يورو. فبينما كان يُفترض أن يكون الإجراء اجتماعيا، تحول إلى «وقود» لنزيف حاد في العملة الصعبة، وضع السلطة في مواجهة مباشرة مع عواقب قراراتها الارتجالية التي يرى خبراء أنها تفتقر لأدنى دراسات الجدوى والاستشراف.

تحايل واسع وتحول المنحة إلى تجارة مربحة

القيمة المالية المرتفعة للمنحة، مقارنة بسعر صرف الدينار في السوق الموازية، فتحت شهية آلاف المواطنين، ليس للسفر أو السياحة، بل للاستفادة من فارق الصرف. وهكذا ظهرت رحلات قصيرة ومكثفة نحو تونس، لا تتجاوز في كثير من الحالات يومين أو ثلاثة، هدفها الوحيد سحب المنحة ثم العودة لبيعها في السوق السوداء.

وكما سبق أن نبه إليه مقال نشره موقع Le360 عقب إعلان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن هذا «الإجراء الشعبوي» في يوليوز الماضي، فقد كشفت التحقيقات فعلا عن استغلال شبكات منظمة لفئات هشة، من بينهم عاطلون مستفيدون من «منحة البطالة»، إذ تم تحويلهم إلى «وسطاء» لتهريب العملة الصعبة.

وأسفرت هذه التحايلات عن اعتقال عشرات المتورطين بتهم مخالفة تشريع الصرف واجتياز الحدود بطرق غير شرعية.

الأخطر من ذلك، أن بعض الممارسات تجاوزت السفر الشكلي إلى أساليب أكثر تعقيدا، عبر التلاعب بأختام الدخول والخروج، أو الجمع بين العبور القانوني وغير القانوني للحدود، فقط لاستيفاء شرط الإقامة الشكلية المحدد في سبعة أيام، بل امتدت إلى هندسة عمليات «عبور وهمية» تتضمن الدخول والخروج بطرق غير قانونية، فقط من أجل استيفاء شرط إداري فارغ من مضمونه. وهنا لم تعد القضية مالية فقط، بل تحولت إلى مسألة تمس هيبة الدولة وقدرتها على ضبط حدودها.

أرقام صادمة وشبكات منظمة

المعطيات الرسمية كشفت حجم النزيف. فحسب تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون، فقد تجاوز عدد المستفيدين من المنحة 470 ألف مسافر، بكلفة قاربت 400 مليون يورو خلال بضعة أسابيع فقط. غير أن الأرقام الأكثر إثارة للقلق جاءت على لسان وزير الداخلية، الذي أعلن هذا الأسبوع عن تسجيل نحو 100 ألف حالة احتيال خلال شهر ونصف فقط، في ما وصفه بـ«أخطر عمليات استنزاف العملة الصعبة» في الفترة الأخيرة.

وأكد الوزير السعيد سعيود وجود شبكات منظمة تضم سماسرة ووسطاء وبعض وكالات السفر، استغلت الإجراء الاجتماعي وحولته إلى آلية لتهريب العملة، مشيرا إلى أن أغلب المتورطين من العاطلين عن العمل، يتم استغلالهم كأدوات في عمليات عابرة للحدود. وبحساب بسيط، فقد تم تهريب حوالي 7.5 مليون يورو في ظرف 45 يوما، دون أي فائدة للاقتصاد الجزائري أو حتى للأشخاص الذين استغلوا في عمليات التحايل.

والاعتراف بوجود شبكات منظمة تضم وسطاء وبعض وكالات السفر، ليس إنجازا بحد ذاته، بل إقرار متأخر بأن الدولة أطلقت إجراء دون أن تتحكم في أدواته.

وإذا كانت السلطات الجزائرية قد أقرت بتهريب 7.5 مليون يورو في ظرف وجيز، فإن السؤال الحقيقي هو: كم من هذه العمليات لم يتم رصدها؟ وكم من العملة خرجت دون أثر اقتصادي أو سياحي يذكر، سوى إغناء جيوب سماسرة وشبكات منظمة؟

تشديد الشروط… علاج متأخر؟

أمام تصاعد الفوضى، تحرك بنك الجزائر مطلع هذا الأسبوع لإصدار تعليمة جديدة شددت شروط الاستفادة من حق الصرف، أبرزها إلزام المستفيد بامتلاك حساب بنكي شخصي، ومنع الدفع النقدي، وتشديد الرقابة على الوضعية المالية للمسافر، مع فرض عقوبات تصل إلى الحرمان من المنحة خمس سنوات والمتابعة القضائية.

ورغم أن هذه الإجراءات دخلت حيز التنفيذ منتصف ديسمبر 2025، إلا أن عددا من الخبراء يعتبرونها محاولة متأخرة لتدارك آثار قرار اتخذ دون تحضير كاف.

فالمنحة، بحسبهم، أطلقت قبل بناء منظومة رقابة رقمية فعالة، ودون اعتماد وسائل دفع حديثة تسمح بتتبع مسار إنفاق العملة، ما جعل «الكاش» نقطة ضعف قاتلة في المنظومة.

ضغط على الاحتياطات

التقديرات التقنية تشير إلى أن الكلفة السنوية للمنحة قد تتجاوز مليار يورو، وهو رقم مقلق في اقتصاد يعتمد بشكل كبير على عائدات المحروقات، ويواجه تقلبات أسعار النفط.

وبحسب خبراء الاقتصاد، فإن توجيه هذا الحجم من العملة الصعبة نحو استهلاك سياحي خارجي، في ظل عجز مزمن في تنويع الاقتصاد، يمثل ضغطا مباشرا على ميزان المدفوعات، ويقوض جهود ترشيد الإنفاق.

كما أن تحويل المنحة إلى وقود للسوق الموازية عمق الفجوة بين السعر الرسمي وسعر الصرف غير الرسمي، ونسف محاولات الدولة للسيطرة على تداول العملة، بل وساهم في دعم «تجارة الشنطة» وإغراق السوق بسلع مهربة على حساب المنتج الوطني والمنظومة الجبائية.

تخبط وغياب رؤية استراتيجية

بات ملف منحة السفر، في نظر مراقبين، نموذجا صارخا لسياسة الارتجال في تدبير الشأن الاقتصادي من طرف النظام العسكري المستولي على الحكم. قرار مالي حساس اتخذ دون دراسات أثر دقيقة، ودون سيناريوهات وقائية، فكانت النتيجة فوضى حدودية، نزيف عملة، وضغط إضافي على مؤسسات الدولة.

وبينما يسوق النظام هذا الإجراء كآلية اجتماعية، يرى منتقدوه أنه يندرج في منطق شراء السلم الاجتماعي المؤقت، على حساب الاستقرار المالي المستدام.

وفي النهاية، يدفع المواطن الثمن مضاعفا: مرة حين تتآكل قيمة الدينار، ومرة حين تشدد القيود باسمه، ومرة حين تقدم له سياسات فاشلة على أنها مكاسب اجتماعية. وبين هذا وذاك، يستمر نزيف العملة، وتتكرس قناعة شعبية بأن إدارة الاقتصاد لا تزال رهينة الارتجال، لا التخطيط.

تحرير من طرف ميلود الشلح
في 19/12/2025 على الساعة 08:00