الجزائر: تبون يبشّر بـ«انطلاقة جديدة».. والدينار يهوي نحو قعر سحيق!

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال لقائه مع فعاليات المجتمع المدني في ولاية قسنطينة يوم الخميس 20 نونبر 2025

في 25/11/2025 على الساعة 07:00

فيديوفي الجزائر التي يبشر بها تبون كلما اعتلى منصة، تتحول البلاد في الخطاب الرسمي إلى ورشة عملاقة من «الإنجازات الفائقة»، بينما يتحول الواقع على الأرض إلى مسرح مفتوح للأزمات المتوالية. فبينما تتكدس الإخفاقات كما تتكدس طوابير الزيت والحليب ويتكاثر الغلاء مثلما يستفحل الفقر والبطالة والهجرة.. يواصل الدينار هبوطه المهين كأنه يصوّت ضد سياسات اقتصادية فقدت بوصلة الاتجاه. وفي ظل الأزمات المتوالية وارتفاع اليورو إلى مستويات تاريخية، وانكماش الأمل في النفوس، تبدو «الجزائر الجديدة» التي يبشر بها تبون مجرد عبارة تُبث في نشرات الأخبار، لا بلدا يتنفس خارج دوامة الفقر والبطالة والانهيار.

أطل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مجددا بابتسامته الواثقة ليعلن خلال زيارته إلى ولاية قسنطينة، أن «الجزائر حققت مؤخرا إنجازات كبرى في ظرف زمني وجيز»، مؤكدا على أن مسيرة «الجزائر الجديدة» لم يوقفها كيد الكائدين ولا «المعارك والإشاعات».. وأطلق -كعادته في كل مرة- المزيد من الوعود الوردية، قبل أن يزعم أن السنة المقبلة ستحمل «انطلاقة جديدة وحقيقية تنتقل بها البلاد إلى بر الأمان بصفة نهائية».

كما ادعى أن «الوضع الاقتصادي متحكم فيه وأن كل المؤشرات الاقتصادية إيجابية»، وأن الجزائر لم تلجأ إلى المديونية الخارجية رغم انخفاض أسعار النفط، مشيرا إلى استعدادات اتخذتها الدولة لمواجهة أي طارئ. وهو كلام يبدو مستوردا من كوكب آخر، أو من قاعة اجتماعات معزولة عن ضوضاء الشارع الجزائري.

بين الحلم والواقع

بينما كان الرئيس تبون يتغنى بـ«الإنجازات الكبرى» ويعد بقرب دخول مشاريع عملاقة مثل «غارا جبيلات» للحديد و«بلاد الحدبة» للفوسفات حيز الإنتاج، كان الواقع يصفع المواطن بـ«إنجازات» أخرى غير مرئية في التلفزيون الرسمي. فقد سجل اليورو مستوى «تاريخيا جديدا» في السوق السوداء للعملات، ليبلغ سعر الوحدة الواحدة منه 280 دينارا.

فحسب مقال نشره موقع «كل شيء عن الجزائر» فإن سعر صرف الأورو في السوق السوداء للعملات بالجزائر بلغ يوم السبت 22 نونبر 2025 «مستوى تاريخيا جديدا»، حيث يعرض الأورو للبيع بـ280 دينارا للوحدة.

وذكر المقال أن سعر الدولار بلغ 248 دينارا في ساحة بور سعيد بالعاصمة الجزائر، التي تمثل المؤشر الحقيقي لنبض الاقتصاد الجزائري.

وأورد الموقع نفسه أنه في أقل من سنة، ارتفع الأورو من 262 دينارا للوحدة في 9 دجنبر 2024 الى 280 دينارا هذا السبت. ومنذ 26 اكتوبر (269,7 دينارا)، ربح أكثر من 10 دنانير للوحدة، وهو « ارتفاع كبير » على حد وصف كاتب المقال، الذي تساءل مستنكرا:« إلى أي حد ستصل موجة ارتفاع الأورو؟« ، مفسرا هذا الصعود الجنوني بأنه ليس سوى انعكاس لعجز النظام عن خلق توازن بين العرض والطلب، وتحوله إلى مجرد فقاعة مضاربية تلتهم مدخرات المواطنين.

ما يثير السخرية المريرة هو أن الرئيس يؤكد في خطاباته أن المؤشرات «إيجابية»، بينما يبدو الدينار غير مدرك لهذه الطمأنة، إذ يواصل رحلة الهبوط الحر مثل طائرة يقودها طيار فقد بوصلته.

وفي بلد الحد الأدنى للأجور فيه لا يتجاوز 20 ألف دينار، أصبح شراء 100 يورو يتطلب 28 ألف دينار.. أي أكثر من شهر من العمل. هذا وحده يكفي لتفسير كيف أصبح كثير من الجزائريين يحتفظون بما تبقى من مدخراتهم في شكل «أوروهات تحت الوسادة»، بدلا من الثقة في المؤسسات البنكية الرسمية التي ما تزال تقدم أرقاما «مستقرة» لا علاقة لها بالسوق الحقيقي.

اقتصاد بلا بوصلة

أزمة العملة ليست سوى فصل من رواية أطول عنوانها «اقتصاد بلا رؤية». فمنذ سنوات، يتحدث النظام عن تنويع الاقتصاد، لكن الاعتماد على المحروقات ما يزال شبحا يحكم الموازنة. وعندما نزلت أسعار النفط، لم ينهَر الاقتصاد وحده، بل تهاوى معه كل خطاب الاكتفاء الذاتي والقدرة على الصمود.

فشل في خلق مناخ استثماري، فشل في بناء اقتصاد تنافسي، فشل في تحويل الثروات الطبيعية إلى صناعات حقيقية. حتى مشروع الحديد من غارا جبيلات، الذي يقدمه الرئيس اليوم كمنقذ، ظل لسنوات عنوانا لسياسات تتحدث أكثر مما تعمل.

نسب البطالة ترتفع، موجات الهجرة غير النظامية تتوسع، شباب يختارون قوارب الموت بدل البقاء في «الجزائر الجديدة»، وطوابير المواطنين أمام الدكاكين تتطاول أكثر من طوابير الناخبين أمام صناديق الاقتراع.

وبينما يؤكد الرئيس أن «المؤشرات إيجابية»، يعرف المواطن أن المؤشر الوحيد الذي «يتقدم» هو سعر اليورو والدولار، وأن الانطلاقة التي تحدث عنها الرئيس ليست سوى انطلاقة جديدة للغلاء، وانطلاقة أخرى للهجرة، وانطلاقة ثالثة للبحث عن عمل في أوروبا بدل «عهدة ثانية» من الوعود.

الجيش يحكم.. والاقتصاد ينهار

لا يمكن فصل تعثر الجزائر عن طبيعة النظام نفسه. فالبلد الذي يُدار بمنطق ثكنة، من الطبيعي أن يخسر معركة الاقتصاد. عندما تتقدم الأولويات العسكرية على الاحتياجات الاجتماعية، يصبح هبوط الدينار تفصيلا صغيرا في سلسلة من الأعطاب المزمنة.

تُصرف المليارات على «ملفات خارجية» وصراعات إقليمية خاسرة، بينما يعجز النظام عن توفير المواد الغذائية الأساسية بأسعار معقولة أو خلق فرص عمل للشباب. الجيش يحكم كل شيء، والاقتصاد يتهاوى، والمواطن يدفع الفاتورة.

هزائم سياسية متوالية

عندما يتحدث النظام الجزائري عن «الجزائر الجديدة»، لا بد أن نعود إلى سجل النتائج لنرى «الجديد» الحقيقي: هزائم دبلوماسية متواصلة في ملف الصحراء المغربية، قرارات أممية تتوالى بخسائر سياسية محرجة، إعلان دول متزايدة دعمها للمبادرة المغربية… فيما يكتفي النظام العسكري برفع الصوت في وسائل إعلامه، لأن الواقع الدولي لم يعد يستجيب لخطابه.

ومع كل انتكاسة في مجلس الأمن، ترتفع وتيرة الخطابات الداخلية، كأن النظام يحاول تعويض العجز الخارجي بجرعات تفاؤل محلية، في حين يعرف المواطن أن هذه «الإنجازات الدبلوماسية» لا تصمد أمام سعر صرف واحد في ساحة بور سعيد.

نظام قائم على الشعارات

بدا الرئيس الجزائري خلال خطبته من قسنطينة وكأنه يحاول أن يقدم جرعة تخدير جماعية لشعب أنهكته الأزمات، متوسلا لغة عاطفية عن «إنجازات كبرى» و«انطلاقة جديدة» و«عبور آمن» نحو المستقبل.

غير أن هذه العبارات المنمقة بدت أشبه بمحاولة لشراء الوقت أكثر من كونها خارطة طريق حقيقية، إذ لم تعد تكفي لتهدئة شعب فقد صبره على خطاب الوعد والرجاء، ويريد نتائج ملموسة لا خطبا تُعاد صياغتها مع كل زيارة ميدانية.

لقد بدا تبون كمن يخاطب جمهورا متعطشا لفرحة ضائعة، لكنه نسي أن هذا الجمهور لم يعد يقبل الوصفات اللفظية، بعدما خبر ـ على مدى سنوات ـ حقيقة الوعود التي تتبخر قبل أن تلامس أرض الواقع.

تحرير من طرف ميلود الشلح
في 25/11/2025 على الساعة 07:00