حالة من الذعر غير المسبوق استبدت بالنظام الجزائري إلى درجة لم يعد يعرف معها أي مؤسسة يعتمد عليها في التواصل عقب الصدمة التي خلفتها قضية القاصرين السبعة الذين تمكنوا من مغادرة أحد أكثر الموانئ مراقبة في البلاد دون أن تعترضهم البحرية أو خفر السواحل الجزائريون.
فعندما يتمكن أطفال لم يتجاوزوا السابعة عشرة من ركوب مركب صيد في أحد موانئ العاصمة الجزائرية والإبحار نحو إسبانيا فان الأمر يعكس ثغرة أمنية خطيرة ويفضح أوجه القصور وربما الهواية التي تطبع عمل الجيش الجزائري.
ويبدو أن السلطات الجزائرية حاولت خلال الأيام الماضية التفاوض مع نظيرتها الاسبانية لإعادة القاصرين بسرعة بهدف إنقاذ صورة الجيش ودفن الفضيحة في مهدها. غير أن فشل تلك المساعي وانتشار صور «الحراگة» المدوية على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الأوروبية اجبر النظام على اختلاق تبريرات لفضيحة لاقت صدى عالميا.
منذ الاثنين الماضي استنفر إعلام الجيش ليبث، لا معلومات حول القاصرين السبعة كما كان منتظرا، بل رسائل دعائية مفادها أن « أياد أجنبية » تقف خلف تضخيم هذا الحدث.
صحيفتا «الخبر» و«الوطن» الجزائريتان كانتا أول من نشر مقتطفا من مقال مبرمج للصدور في عدد الثلاثاء 9 شتنبر من مجلة الجيش، التي دأبت على تفسير إخفاقات الجزائر حصرا من زاوية « المؤامر. كما انبرى عبد القادر بن قرينة، زعيم حزب إسلامي مقرب من السلطة، ليكون الصوت السياسي الوحيد الذي خرج متحدثا عن «استغلال أعداء الجزائر» لهذه القضية.
في اليوم الموالي، كان المشهد الإعلامي الجزائري على موعد مع حملة ضخ إعلامي متزامنة مع صدور عدد سبتمبر من مجلة الجيش. فجميع الصحف والمواقع، وفي مقدمتها وكالة الأنباء الرسمية (واج/APS)، نشرت عناوين شبه موحدة تعلن أن « الجيش » علّق على «قضية سبعة قاصرين هاجروا سرا من الجزائر».
إقرأ أيضا : الجزائر: حين يهاجر الأطفال.. هروب جماعي من بلاد غنية بالنفط ومحاصرة بالفقر
هذا التضخيم الإعلامي سلط الضوء على تناقض صارخ، إذ كيف لجيش يفاخر بترسانته أن يعجز عن رصد قارب يقل سبعة أطفال غادر أحد موانئ العاصمة وعبر المياه الاقليمية الجزائرية ثلاث ساعات كاملة قبل أن يصل بعد تسع ساعات إلى إيبيزا الإسبانية.
هذه الثغرة الأمنية تعيد إلى الأذهان حادث اختطاف سائح إسباني يوم 14 يناير الماضي على يد جماعة مسلحة نقلته إلى الاراضي المالية، بينما تركت مرافقيه أحرارا. تلك الحادثة أظهرت عجز الجيش عن تأمين البلاد وحدودها. ومع هروب القاصرين السبعة يتضح أن المشكلة لا تخص الحدود البرية فقط بل تمتد إلى السواحل أيضا.
اللافت أن أية وسيلة إعلام لم تحدد تاريخ انطلاق الرحلة بالضبط، اذ اكتفت مجلة الجيش بالإشارة إلى أنها وقعت « مطلع شتنبر »، ما يوحي بأن المؤسسة العسكرية لم تكن على علم بما حدث إلا بعد أن تفجرت الفضيحة من السواحل الإسبانية.
بعد صمت استمر أكثر من أسبوع، استغلت الصحافة الجزائرية صدور مجلة الجيش لتكرر روايتها تحت عنوان « حملات التضليل لن تمنع الجزائر من حماية شبابها».
صحيح أن الهجرة السرية ظاهرة عالمية كما أشارت المجلة، غير أن الجزائر التي تمتلك ثروات نفطية وغازية ضخمة يفترض أن تكون وجهة للمهاجرين وليست مصدرا رئيسيا لـ« الحراگة ». وهذا بطبيعة الحال يفترض حكما رشيدا، وهو ما يغيب في الواقع.
ولتغطية هذه الحقيقة وفشل الجيش، شنت مجلة « الجيش » هجوما على وسائل الاعلام الدولية متهمة إياها بالكيل بمكيالين مقارنة مع دول أفقر. وادعت أن « بعض وسائل الاعلام المعادية حاولت استغلال الحادث لتشويه صورة الجزائر ومؤسساتها ». بمعنى آخر، وحسب رواية الجيش، لا وجود في الجزائر لسوء حكامة ولا بطالة ولا فقر ولا تحكم الجنرالات في السياسة والاقتصاد بل مجرد « حملات تضليل لتشويه سمعة البلاد».
لم تقدم المجلة أية معلومة عن هوية القاصرين أو عائلاتهم، لكنها زعمت أنهم « ما زالوا متمدرسين » في محاولة لنفي أن تكون الأسباب اجتماعية أو اقتصادية.
كما وجهت تحذيرا إلى الشباب الجزائري الناشط على شبكات التواصل محذرة من «سهولة استغلالهم لرسم صورة قاتمة عن وطنهم خدمة لأجندات خبيثة».
ولتلميع صورة المؤسسة العسكرية، استعادت المجلة إنجازا اعتبرته « مكسبا للشباب »، وهو منحة بطالة لا تتجاوز 13 ألف دينار (نحو 500 درهم)، مؤكدة أن « الشباب مدعو للمشاركة في بناء الجزائر الجديدة: قوية وسيدة ومزدهرة بفضل شعبها وجيشها ومؤسساتها».
غير أن هذا الخطاب لا يخفي واقعا أكثر خطورة: إذا كان قارب الأطفال السبعة قد نجا من هيجان البحر، فإن « سفينة النظام » نفسها تتسرب إليها المياه من كل جانب، والغرق بات مسألة وقت فقط.
كما عبّر عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، واصفا العملية بأنها « حادث سيدخل التاريخ »، فإن كل محاولات الجيش الاحتماء بنظرية المؤامرة و« الأيادي الخارجية » لن تغير الحقيقة: فرار سبعة أطفال من قلب العاصمة تمثل ضربة قاسية تشبه هجوم عين اميناس الغازي، إذ تعري عجز المؤسسة العسكرية.




