وكان إمام مسجد النور في نيوزيلندا، جمال فوده، على بعد 5 دقائق تقريبًا من إلقاء خطبته على المنبر المرتفع بمسجد النور أمام نحو 200 من المصلين، عندما بدأ أحدهم في القفز، وتعالت أصوات الصراخ ليبدو الأمر وكأنه صوت طلقات نارية. لكن، سرعان ما أُطلقت رصاصة أخرى ليصيح رجل جزائري قائلًا: ”نعم، إنه إطلاق نار، وذلك قبل تحطم النافذة“.
وقال فوده: "توالت طلقات الرصاص بشكل أكبر قادمة من شخص كان يرتدي خوذة ونظارة وزيًا عسكريًا ممسكًا بيديه بسلاح نصف آلي "ليركض معظم المصلين نحو الحفرة الكبيرة التي حدثت في الزجاج، ولكن القاتل كان يقف مستهدفًا إياهم، ولهذا السبب قُتل عدد قليل من المصلين الذين كانوا يقفون بالجانب الأيمن، بينما سقط العديد واحدًا تلو الآخر وتراكموا فوق بعضهم البعض على الجانب الأيسر، وأضاف إن الرجل المسلح كان يطلق النيران على المصلين بينما كانوا يهرولون، فكلما سمع صوتًا آتيًا من أي مكان كان يطلق النيران نحوه مباشرة.
همجية المسلح ووحشيته
ولفت فوده إلى همجية المسلح ووحشيته قائلًا: "ظل يراقب الناس بهدوء تام ثم أخذ يطلق النيران دون توقف"، وذكر فوده أن المصلين أصيبوا بالاختناق وعدم القدرة على التنفس من الدخان والرصاص الذي كان يلاحقهم أينما ذهبوا، وقال: "لم نكن متأكدين من مغادرته لأن الصمت كان يعم أرجاء المسجد عندما كان يطلق الرصاص، فقد اعتقدنا أنه مختبئ أو ينتظر إسقاط ضحايا آخرين… لم نتمكن من رؤيته وقتها، والحمد لله أنه لم يعلم أين كنا، ولكن المسلح عاد مرة أخرى وأطلق النار على أولئك الذين خرجوا بعد أن كانوا مختبئين.. فلم نعلم أنه سيعود".
ولفت فوده في معرض حديثه إلى أن القاتل نثر الرصاص على جثث الضحايا المتراكمة، ورغم ذلك اختبأ الكثير ممن فروا من هذا الحادث في موقف السيارات الخلفي للمسجد، وآخرون هربوا خارج الأسوار.. ثم عاد فوده يصف وحشية القاتل، وذكر أنه أطلق النيران على رجل شاهده يحاول طلب المساعدة بالاتصال برقم الطوارئ 111.
أما عن فوده فقد اختبأ في غرفة مسجد النور الرئيسية مع آخرين طيلة فترة إطلاق النار التي أسفرت عن مقتل 43 شخصًا، لافتًا إلى أن القاتل لم يكن يعلم بوجود النساء في غرفة منفصلة، لذلك بقين في أمان، إلا من حاولت الفرار منهن، فقد لحقتها النيران. وقال فودة وسط حالة من الاندهاش: "لم أصدق حتى الآن أنني ما زلت على قيد الحياة".
وعاد فوده إلى الحادث مرة أخرى، مستذكرًا أن القاتل حينما غادر أخيرًا قفز إلى سيارته مسرعًا ليتجه مهاجمًا مسجد لينوود الذي قتل فيه 7 من المصلين.. وقال شخص عراقي شاهد على الحادث إن القاتل المسلح غادر المسجد بعدما تأكد أنه لا يوجد ناجٍ واحد، وبعد مغادرته بدأ الناجون في الظهور.
المذبحة في المسجد الآخر لينوود
وتحدث فوده، وهو مصري الأصل، إلى صحيفة هيرالد تريبيون بصحبة زميل له، وهو الإمام ألبي لطيف زير الله، الذي نجا من مذبحة مسجد لينوود .
وقال الإمام الآخر زير الله إن المسجد كان يضم وقتها ما يقرب من 80 مصليًا، وبدأ القاتل بإطلاق النار خارج المسجد الساعة 1:55 تقريبًا، فبدأ برجل وزوجته، لافتًا إلى أنه كان خارج المسجد وقت إطلاق النار.
وقال زير الله إنه حينما شاهد فعلة هذا القاتل، صاح مسرعًا نحو باقي المسلمين قائلًا: " أسرعوا.. أسرعوا.. هناك شخص ما يطلق النيران على أشقائنا خارج المسجد"، لكن، للأسف، لم ينتبه أحد، إلى أن جاء القاتل وأطلق النيران على رأس أحدهم من خلال النافذة، وسقط المقتول وتحطم الزجاج، ومن هنا انتبه الجميع.
وهرع زير الله إلى الخارج مع زميله المصلي عبد العزيز الذي أمسك بيديه آلة بطاقة ائتمان، واتجه الاثنان نحو القاتل الذي ركض إلى سيارته ليحصل على مسدس آخر، فألقى عبد العزيز بآلة بطاقة الائتمان عليه. وأسرع زير الله نحو المسجد في محاولة منه لإغلاق باب المسجد الرئيسي، حتى يحافظ على أرواح البقية من الناجين، بينما كان المسلح يطلق النار على عبد العزيز، الأب الذي لديه طفلان أحدهما يبلغ من العمر 11 عامًا والآخر 5 سنوات، فأمسك عبد العزيز ببندقية القاتل التي تركها، ولم يدرك وقتها أنها فارغة إلا بعد أن ضغط الزناد.
وقال إن القاتل اتجه مرة أخرى إلى سيارته ليحضر سلاحًا آخر، وعند دخوله السيارة، هجم عليه عبد العزيز بالبندقية الفارغة، وهو يحطم زجاج نافذة السيارة، ما أرعب القاتل. واستمر عبد العزيز في سرد الواقعة، مشيرًا إلى أن القاتل وقت تحطيم زجاج سيارته، قام بسبه ولعنه وتوعده بقتل الجميع ثم هرب مسرعًا بسيارته. وتشير مقاطع الفيديو المتداولة على الإنترنت إلى أن ضباط الشرطة تمكنوا من القبض عليه بعد أن أجبروه على الانعطاف الخاطئ والخروج عن الطريق، وذلك بعد فترة وجيزة من محاولة هروبه.
وعاد زير الله إلى حديثه عن محاولة إنقاذ أرواح الناجين، واستدعاء خدمات الطوارئ قائلًا: "جهزت نفسي للموت لإنقاذ الناس، فقد شعرت بالأخوة حيالهم، ولم أعتقد أنني كنت سأتركهم، وأرحل دون أن أقدم لهم روحي فداء لهم"، ولا شك أن زير الله وعبد العزيز كانا في حالة صدمة جراء الحادث الذي أودى بحياة 50 شخصًا وأصيب إثره عشرات الأشخاص، وقد نعتا القاتل وسط غضب شديد بأنه مجرم ويستحق أشد عقوبة بموجب القانون النيوزيلندي.
أما عن فوده فلم يهنأ بنوم عميق منذ أن حدث الهجوم، حيث حصل على 3 ساعات من النوم فقط، لتتجلى أولوياته في محاولة الحصول على قائمة بأسماء الموتى لتنظيم جنازة لهم.
وقال فوده إن هذا الأمر يتطلب المزيد من الوقت ومشاركة المزيد من الأشخاص أيضًا، لافتًا إلى أن هناك خطة مدروسة لمساعدة الأسر المتضررة، سواء ممن أصيب أو توفي، لكن، لا بد من التريث والتحلي بالصبر.
وأضاف فوده: "أنا بحاجة إلى الهدوء لكي أستطيع مساعدة المجتمع، فكلما ذهبت إلى مكان ما أحاول التخفي عن الناس لأنهم يريدون طرح الأسئلة، وأنا لا أريد سوى الهدوء حاليًا".
وختم فوده حديثه مع صحيفة هيرالد تريبيون بكلمات حارة وسط موجه من البكاء، مرسلًا تعازيه إلى مجتمعه قائلًا: إن "أولئك الذين ماتوا انتقلوا إلى مكان أسمى، إلى عالم العدل الذي هو أفضل من عالم الظلم. وإنني أقدم خالص التعازي للمواطنين النيوزيلنديين جميعًا، فقد كان حادث الجمعة حربًا على الإسلام، وأنا اعتبره حربًا ضد كل نيوزيلندي".
ووجه فوده رسالة إلى كل مواطن نيوزيلندي، داعيًا إياه إلى التكاتف والعمل سويًا كإخوة وأخوات في هذا البلد، ومشددًا على أنه لا وجود للخوف، فما حدث هو حرب ضد الإسلام ولا يجب مطلقًا أن يستسلموا لهذه الحرب، مناشدًا القادة الإسلاميين التصدي للإرهاب.