وصل الارتباك في قصر المرادية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث صدرت التعليمات للأبواق الإعلامية بتفادي ذكر كلمة «المغرب» بأي ثمن. ففي مشهد يثير السخرية والشفقة في آن واحد، وجد المتابع للإعلام الجزائري نفسه أمام أحجية جغرافية معقدة: المنتخب الوطني غادر البلاد للمشاركة في نهائيات قارية، لكن أحدا لا يجرؤ على ذكر اسم البلد المضيف، هل شد «ثعالب الصحراء» الرحال إلى فراغ جغرافي، أم إلى كوكب مجهول لا يحمل اسما؟
الإحراج بلغ ذروته حين حاولت نشرات الأخبار الحديث عن وصول المنتخبات إلى الرباط، مراكش، طنجة أو أكادير، دون الإشارة إلى الدولة المستضيفة. أخبار مبتورة، بلا سياق، بلا جغرافيا، وبلا حد أدنى من المهنية. الحديث عن وصول المنتخب الجزائري إلى الرباط، دون القول إنها عاصمة المغرب، كان مشهدا كاشفا لحالة ارتباك غير مسبوقة.
ومع تصاعد السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تجد بعض المنابر الجزائرية بدا من ابتكار توصيف بديل، فاستحضرت عبارة «نظام المخزن» كناية عن المغرب. إضافة لم تنقذ الموقف، بل زادت المشهد هزلا، وفتحت بابا أوسع للتندر، حتى داخل الجزائر نفسها، حيث وجد كثيرون في هذا السلوك دليلا على إفلاس مهني وسياسي في آن واحد.
عقدة اسمها المغرب
المضحك أيضا أن القنوات الجزائرية استضافت «محللين سياسيين» لتحليل البنية التحتية الرياضية لـ«البلد المضيف» كما يصرون على تسميته، في سابقة تؤكد أن الكرة، في قاموس «الكابرانات»، لا تُلعب بالأقدام فقط، بل تُدار أيضا بعقلية العسكر.
الجميع يتحدث، يناقش، يحلل، لكن مع الحرص الشديد على ألا يذكر اسم البلد المنظم. حتى المنتخب المغربي جرى تجريده من هويته، ليصبح مجرد «منتخب البلد المنظم»، وكأن الانتماء الوطني تهمة لغوية.
هذا السلوك لم يأت من فراغ. فقد سبقه، قبل انطلاق البطولة، خطاب تشكيكي واسع من طرف الإعلام المسخر من طرف العسكر الجزائري، حيث زعم «عدم جاهزية» المغرب، وذهب إلى حد وصف الملاعب بأنها «مشاريع على الورق»، قبل أن تصدمهم الحقيقة الميدانية لجاهزية الملاعب وبقية المنشآت التي اكتملت في وقت قياسي.
جزائريون يفضحون «السردية المفبركة»
لكن ما لم تحسب له حسابات قصر المرادية، هو أن زمن احتكار الصورة قد انتهى. حمل آلاف المشجعين الجزائريين الذين حلوا بالمغرب هواتفهم، ووثقوا كل شيء.
نقل الشباب الجزائري عبر فيديوهات انتشرت عبر منصات «تيك توك» و«فيسبوك» و«إنستغرام» و«يوتيوب» وغيرها.. حقيقة الطرق السيارة، والقطارات السريعة، وحفاوة الاستقبال الشعبي، شوارع منظمة، تنقل سهل، استقبال حار، ملاعب جاهزة، وخدمات تحترم الإنسان.. مشاهد من الواقع نسفت في دقائق مزاعم الإعلام الرسمي للجارة الشرقية على مدى سنوات.
هنا سقطت رواية «المغرب الفقير». فالمقارنة لم تكن مع أوروبا ولا مع الخليج، بل مع جار مغاربي لا يملك بترولا ولا غازا، لكنه يملك رؤية. السؤال المؤلم الذي عاد به كثير من الجزائريين كان بسيطا ومربكا في آن واحد: من يعيش الفقر الحقيقي؟ بلد بلا ثروات طبيعية أم دولة ريعية غارقة في سوء التسيير؟
حملة مسعورة
من بين المنتقدين لسلوك أبواق الدعاية للنظام العسكري جزائريون كثر، منهم الناشط السياسي شوقي بن زهرة، الذي تطرق في مقطع فيديو إلى ما وصفه بـ«حملة مسعورة من النظام الجزائري ضد كأس أفريقيا للأمم في المغرب»، حيث استعرض من خلاله «حماقات» الإعلام الجزائري اتجاه العرس الكروي المنظم بالمغرب.
وحذر المعارض السياسي اللاجئ في فرنسا من أن «فئة من الجزائريين الذين تنقلوا إلى المغرب غرضهم ليس متابعة مباريات كرة القدم أو مشاركة الفرح مع المغاربة.. وإنما غرضهم إثارة الفوضى والبلبلة بشكل أو بآخر...».
وبلغ السعار ذروته حين حاول الذباب الإلكتروني الترويج لفرية «غياب راية الجزائر» عن منصة حفل الافتتاح، في محاولة بائسة لتصوير المغرب كبلد لا يحترم المواثيق الرياضية. غير أن الواقع، الذي اضطر حتى بعض إعلامهم لتوضيحه لاحقا، أكد أن الراية كانت حاضرة وباعتزاز، لكن زوايا التصوير خلف مجسم الكأس هي التي لجمت أوهامهم.
إن ما يحدث اليوم في كواليس الإعلام الجزائري ليس مجرد سقطة مهنية، بل هو مرآة لـ«ارتباك وجودي» يعيشه نظام يرى في نجاح جاره تهديدا لسرديته القائمة على العداء.
لقد تحول «الكان» بالمغرب من تظاهرة رياضية إلى «معركة وعي» خسرها جنرالات النظام الجزائري قبل أن تبدأ، لأن الواقع ببساطة، أقوى من أن يحجبه غربال التضليل.







