بعد 25 عاما من دخولها إلى المملكة المغربية، لم تعد سافران ترى فيها مجرد موقع إنتاج مكمل. فقد فرض المغرب نفسه كعنصر أساسي في حضورها العالمي. توجد الآن ثماني شركات من شركات المجموعة فيه، متمركزة في الدار البيضاء والرباط، في منظومة تعززت على مر السنين مع تطور صناعة الطيران المغربية.
يندرج هذا التطور في إطار منطق الاستمرارية والثقة. وأوضح لنا عبد الحفيظ بوفتال، رئيس سافران لخدمات محركات الطائرات في الدار البيضاء قائلا: «يمثل المغرب بيئةً مألوفة لمجموعة سافران، إذ أنها تتواجد فيه منذ 25 عاما. يزخر البلد بكفاءات مهمة في قطاع صناعة الطيران، بفضل مدارس التكوين وموقعه الصناعي المتنامي».
تحول هذا الحضور إلى استراتيجيةً مستقبلية. فيوم الاثنين 13 أكتوبر في النواصر، وبحضور العاهل المغربي، وضعت سافران حجر الأساس لمجمع صناعي يعزز العلاقة بين المجموعة والمملكة. يتميز هذا المشروع بحجمه غير المسبوق، إذ يجمع وحدتين متكاملتين في قلب منصة مندمجة «ميدبارك» (Midparc)، التي تعد اليوم أحد رموز النجاح الصناعي المغربي.
مشروع عالمي للصيانة والتجميع
أُعلن عن موقع شركة سافران لخدمات محركات الطائرات في الدار البيضاء، في 28 أكتوبر 2024، خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرباط، لدعم النمو السريع لأسطول محركات ليب (Leap) المنتجة من قبل شركة سي إف إم الدولية (CFM International)، وهي شركة مملوكة بالمناصفة بين شركة سافران لمحركات الطائرات وشركة جنرال إلكتريك للطيران، التي توفر حاليا لتجهيزات لغالبية طائرات الجيل الجديد أحادية الممر، إيرباص إ320 نيو (Airbus A320neo) وبوينغ ماكس 737 (Boeing 737Max).
سيبدأ تشغيل هذا المعمل في عام 2027، وسيضم مساحة صناعية تبلغ 25.000 متر مربع، وقدرة صيانة تبلغ 150 محركا سنويا، وسيوفر 600 منصب شغل جديد بحلول عام 2030. ويمثل هذا استثمارا بقيمة 120 مليون أورو تقريبا.
كما اختارت سافران المغرب لتركيب خط تجميع جديد مخصص لمحرك ليب-1أ (Leap-1A) لإيرباص. وسيكمل هذا الموقع القدرات الحالية لمنشأة فيلاروش في فرنسا لمواجهة تحديات التوسع الكبيرة للبرنامج. وهكذا، تخطط شركة سي إف إم الدولية لتحقيق معدل إنتاج سنوي يبلغ حوالي 2500 محرك ليب ابتدءً من عام 2028.
سيبدأ هذا الموقع الجديد، الذي تبلغ مساحته 13000 متر مربع، العمل بنهاية عام 2027، وسيكون قادرا على تجميع ما يصل إلى 350 محركا سنويا. سيوفر هذا الموقع 300 منصب شغل ويمثل استثمارا بقيمة 200 مليون أورو تقريبا.

يزود محرك ليب، قلب هذه المرحلة الجديدة، أكثر من 4000 طائرة حول العالم، ويبلغ إجمالي الطلبات عليه ما يقارب 11500 وحدة. يتميز هذا المحرك بأنه أخف وزنا وأقل ضجيجا وأكثر اقتصادا من سابقيه، ويرمز إلى الانتقال الطاقي في قطاع النقل الجوي.
وأكد عبد الحفيظ بوفتال قائلا: «يعد المشروع واحدا من أكبر المشاريع في العالم في مجال صيانة محركات ليب. ستكون لدينا قدرة إنتاجية تبلغ 150 محركا سنويا، وسنشغل أكثر من 600 شخص مؤهلين تأهيلا عاليا. يتعلق الأمر بمهندسين وتقنيين ومشغلين تلقوا تكوينهم في معهد مهن الطيران وبشراكة مع تجمع الصناعات المغربية في الطيران والفضاء».
المغرب: الموقع الجغرافي والاستقرار كنقاط القوة
ينبع اختيار المغرب من منطق تكنولوجي وجغرافي وسياسي. فقربه من أوروبا، وانفتاحه على إفريقيا، وإطاره الاقتصادي الكلي المستقر، ومتانته المؤسساتية، تجعله منطقة فريدة في المشهد الصناعي العالمي، كما أوضح ذلك رئيس سافران لخدمات محركات الطائرات في الدار البيضاء، إذ أكد قائلا: «يجعل التموقع الجغرافي من المغرب حلقة وصل طبيعية بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط. كما أن الإطار التنظيمي الملائم ودعم السلطات العمومية يجعلانه بلدا مستقرا على الصعيد الاقتصادي الكلي، وكل هذا بفضل قيادة جلالة الملك محمد السادس».
يشكل هذا الاستقرار أساس النموذج المغربي. ولأن التخطيط الصناعي عملية طويلة الأمد، فإن القدرة على التنبؤ الاقتصادي والسياسي تصبح موردا استراتيجيا. ولهذا السبب تعتمد سافران على بيئة ملائمة، وسياسة صناعية متماسكة، وخدمات لوجستية تتيح ربطا سريعا بالمراكز الأوروبية والإفريقية الرئيسية.
وهناك ميزة أخرى للمغرب، وتتعلق بكفاءة مهندسيه وتقنييه. أنشأت المجموعة نظاما تكوينيا متكاملا، يتمحور حول معهد مهن الطيران، ومكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل، وتجمع الصناعات المغربية في الطيران والفضاء، والمدارس العليا للهندسة. وأوضح عبد الحفيظ بوفتال: «نسعى لاستقطاب المهندسين الشباب من المدارس المغربية. كما نشغل تقيين بالشراكة مع مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل ومعاهد التكوين الميكانيكي. يتابع هؤلاء الشباب دورة نظرية وعملية قبل الانضمام إلى أوراش العمل، ثم يتم تكوينهم في شبكاتنا لتحقيق نضجهم المهني».
المنطق واضح للغاية: التكوين محليا، والاحتفاظ بالكفاءات، وخلق مسارات مهنية مستدامة. تطبق المجموعة أعلى معايير السلامة والجودة في المغرب، لأن «السلامة هي أهم شيء في قطاع الطيران»، كما أشار إلى ذلك محاورنا.
الرؤية الملكية، محفز لنموذج صناعي مستدام
لا يمكن فصل تاريخ الشراكة بين سافران والمغرب عن الرؤية الصناعية التي يتبناها الملك محمد السادس. منذ أوائل الألفية الثانية، جعل الملك التنمية الصناعية محورا للسيادة الاقتصادية، محددا قطاعات استراتيجية قادرة على توفير فرص الشغل ونقل التكنولوجيا وتحقيق الاستقرار. وقد أثمرت هذه الرؤية عن إنشاء مناطق صناعية مندمجة، وتحديث منظومة التكوين، وتشجيع الاستثمار الأجنبي في قطاعات التكنولوجيا عالية القيمة.
Le roi Mohammed VI, accompagné du prince héritier Moulay El Hassan, lors de la cérémonie de lancement des travaux du complexe industriel de moteurs d’avions du groupe Safran, le 13 octobre 2025 à Nouaceur.
وكما أكد روس ماكينيس، رئيس مجلس إدارة شركة سافران، خلال حفل الافتتاح بالنواصر، قائلا: «إن حضور جلالة الملك لهذا الحفل بالغ الأهمية. فهو يظهر اهتمام جلالته بالتنمية الصناعية في المملكة، ويؤكد أيضا على البيئة الاستثمارية المثالية التي يواصل جلالته تعزيزها من خلال رؤية مستنيرة وجريئة واستشرافية».
هذا الثبات السياسي، النادر في عالم صناعي غالبا ما يكون عرضة للتقلبات، يفسر إلى حد كبير ولاء الشركاء. فمنذ عام 1999، لم تخفض سافران من وتيرة توسعها في المغرب. والأكثر من ذلك، فإن المجموعة استقطبت عشرات المناولين ومصنعي المعدات الفرنسيين والأوروبيين، مما عزز النسيج الصناعي المحلي.
سلسلة قيمة وطنية متنامية باستمرار
تتجاوز تأثيرات مجمع النواصر حدود شركة سافران، حيث يجذب كل موقع من مواقع المجموعة العديد من الموردين ومقدمي الخدمات. تعزز هذه الشبكة سلسلة القيمة المغربية في قطاع صناعة الطيران. وأكد وزير الصناعة والتجارة، رياض مزور، أمس: «سيساهم هذا المشروع في ترسيخ مكانة المملكة بشكل دائم في سلسلة تصنيع المحركات العالمية».
لم تعد المنظومة المغربية اليوم تقتصر على التجميع، بل تمتد لتشمل التصميم والصيانة والخدمات اللوجستية والبحث التطبيقي. والهدف هو جعل المغرب فاعلا، قادرا على ضمان الدورة الصناعية الكاملة لمحركات الطائرات.
Le site de Safran Aircraft Engine Services Morocco (SAESM), société commune entre Safran Aircraft Engines et Royal Air Maroc. (K.Essalak/Le360)
كما أن سافران أدرجت توسعها المغربي في إطار منطق مستدام، حيث وقعت مذكرة تفاهم لتشغيل مواقعها بالطاقة المتجددة ابتداء من عام 2026. ويرى أوليفيي أندرييس، المدير العام للمجموعة، أن هذا البعد البيئي أصبح الآن جزءا لا يتجزأ من القدرة التنافسية الصناعية. وأكد قائلا: «نهدف إلى بناء موقعين مرجعيين هنا، يتميزان بالكفاءة والابتكار والاستدامة. موقعان سيعززان الصداقة والشراكة بين سافران والمغرب».
سيقلل استخدام الطاقة الخضراء بشكل كبير من البصمة الكربونية للموقع، ويلائم الإنتاج المغربي مع المتطلبات البيئية الأوروبية. تمثل هذه ميزة حاسمة لشركات الطيران ومصنعي الطائرات الذين يسعون إلى تقليل بصمتهم البيئية في سلسلة الإنتاج.
تأثير على التشغيل والكفاءات
مع التوسعات المخطط لها، تعتزم سافران تشغيل 2000 شخص إضافي خلال الأعوام الخمس المقبلة. تشكل هذه الدينامية حلقة إيجابية. فالطلب على الكفاءات يساهم في تحديث برامج التكوين، وظهور مهن جديدة، وتطوير العروض التكنولوجية للشركات المحلية.
سافران ليست المجموعة الوحيدة التي تستثمر في المغرب. فقد أنشأت شركات إيرباص، وبوينغ، وتاليس، وسبيريت إيروسيستمز، وستيليا إيروسبيس مواقع رئيسية فيه. وجميعها تستند إلى نفس الحجج: الاستقرار، والقرب، والكفاءات، ومناخ الاستثمار.
لكن سافران تحتل مكانة فريدة. إن تواجدها الممتد لـ25 عاما، واندماجها في الاقتصاد المحلي، والتزامها بالتكوين، يجعلها شريكا أكثر منها مستثمرا. «نحن لا ننتج في المغرب، بل ننتج مع المغرب»، هذا ما يلخصه روس ماكينيس، رئيس مجلس إدارة المجموعة. وهي عبارة أصبحت رمزا للشراكة المتوازنة.







