لكن المتميز أكثر، أن مخاض المتغيرات غالبا ما يصب في اتجاه تكريس الثوابت، وتوسيع مجال الرؤية وتعميق التفكير لخوض تجارب للتعاون بأساليب ومرجعيات وسقف أهداف، يستجيب لمستجدات الظرفية على المستويين الإقليمي والدولي.
ولعل من أهم القواسم الثابتة في علاقات المغرب بدول مجلس التعاون الخليجي، "دعم القضايا العربية والإسلامية العادلة" و"عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير" و"الالتزام بالشرعية الدولية".
إلا أن أهم متغير استجد في سماء هذه العلاقات في ماي 2011 وانتهى إلى تعميق ما هو مترسخ برؤية أوسع، هي دعوة المجلس الموجهة للمغرب وأيضا للأردن للانضمام إلى أعضائه، والتي انتهت في حالة المغرب إلى بناء شراكة استراتيجية خاصة مع المجلس، تتوجت في سابع نونبر 2012 بتوقيع الجانبين في المنامة على مخطط عمل بينهما عن الفترة (2012-2017)، يشمل مجالات متعددة بآليات تقارب آليات الشراكة المتقدمة التي تربط المغرب بالاتحاد الأوروبي.
وكانت الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس في أكتوبر 2012 لكل من المملكة العربية السعودية وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة، وضعت المحددات الأساسية لهذه الشراكة الاسترتيجية، وأظهرت أن وضع آليات للتعاون والشراكة الاستراتيجية مع المجلس والسهر على تنفيذها ومتابعتها، لن يكون أقل خدمة لمصالح الطرفين من انضمام المغرب إلى المجموعة، إن لم يكن أكثر، خاصة في ظل حفاظه على الانتصار للانتماء الإقليمي ضمن اتحاد دول المغرب العربي كثابت استراتيجي، وارتباطاته بالمنطقة المتوسطية وبإفريقيا وأيضا علاقاته المتميزة بأوروبا والولايات المتحدة.
وبالفعل، جاءت دعوة الانضمام إلى المجلس، بحسب كثير من المحللين، كاعتراف بالدينامية الإصلاحية التي انخرط فيها المغرب بقيادة جلالة الملك، وبوجاهة خيار الانفتاح الذي اعتمده كأساس لتطوير اقتصاده عبر إبرامه لمجموعة من اتفاقيات التبادل الحر.
ومن جهة أخرى، أتت هذه الدعوة، في وقتها، لتكرس جاذبية الاقتصاد المغربي للاستثمارات، خصوصا القادمة من دول مجلس التعاون الخليجي، ولتؤكد أيضا على القيمة المضافة والنوعية لاستراتيجية موقعه الجغرافي كبوابة على إفريقيا والعالم العربي وأوروبا، بوابة مرفقة أيضا بنوافذ مشرعة على الأمريكيتين.
وفي سياق ثابت الانتصار للقضايا العربية والإسلامية العادلة وللشرعية الدولية، يأتي أيضا دعم جل دول مجلس التعاون الخليجي للمغرب في استكمال وحدته الترابية ولمبادرته بخصوص الحكم الذاتي، وأيضا دعم المغرب لاسترجاع الإمارات لجزرها الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى التابعتين لإمارة رأس الخيمة وجزيرة أبو موسى التابعة لإمارة الشارقة، وكذا وقوفه إلى جانب دول المجلس في عدد من الانعطافات التاريخية.
وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية والتجارية، يدخل ضمن الثابت معطى حجم المبادلات بين الجانبين الذي ما يزال، بالرغم من تطوره بالنظر إلى مساره التاريخي، دون التطلعات والإمكانات.
ويمكن إرجاع ذلك إلى عوامل بعضها أيضا ثابت، والآخر قابل للتغيير سواء بتدخل إرادة الطرفين أو نتيجة للمتغيرات الإقليمية والدولية.
فضمن الثابت، يدرج المتتبعون عامل البعد الجغرافي وغياب خط بحري مباشر بين الجانبين، وضمن القابل للتغيير بإرادة الطرفين، يبرز عنصر "عدم كفاية أو غياب الحملات التواصلية للنهوض بالاستثمارات وتحديد القطاعات الواعدة بالنسبة للجانبين".
أما ما ينتمي للمتغيرات الدولية، فيستحضر المحللون ما تعرفه الظرفية العالمية من عدم استقرار يزيد من حدته تذبذب أسعار المواد الأولية والغذاء وميلها في كثير من الأحيان إلى الارتفاع على نحو لم تبلغه من قبل، وأيضا الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي ما تزال تعتمل في هذا الجزء وغيره من العالم وترخي بظلالها وتبعاتها على مجموع المعمور.
لكن الثابت على مستوى المبادرة المغربية، بحسب مديرة العلاقات التجارية الدولية لطيفة البوعبدلاوي، في مداخلة لها حول المبادلات التجارية بين المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي، كانت شاركت بها في ندوة احتضنها في أبريل الماضي المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية بالرباط، هو "عزم المغرب الراسخ المدعوم ببرامج عملية للنهوض بالصادرات"، مرة، من خلال التكيف المتواصل مع تغيرات الظرفية الوطنية والدولية، ومرة باعتماد جيل جديد من الإصلاحات التي تم الشروع فيها منذ سنة 2000، وأخرى بإحداث وتنفيذ استراتيجية جديدة للتنمية والنهوض بالصادرات (منذ 2009)، عمادها، في كل ذلك، ثلاثة محاور (استهداف القطاعات والمنتجات ) و(استهداف الأسواق) و(مواكبة الفاعلين).ميزان تجاري لصالح دول الخليجبالرغم من الجهود المبذولة أو تلك التي استنفذت في هذا السياق، لم تتجاوز حصة صادرات المغرب خلال 2012 ، بحسب إحصاءات لمكتب الصرف، نسبة 0,7 في المائة من مجموع حصص الدول المصدرة إلى سوق دول مجلس التعاون الخليجي الذي يستقطب حوالي 42 مليون مستهلك بقدرات شرائية الأعلى عالميا.
وبلغت قيمة هذه الحصة 2 مليار درهم خلال سنة 2012، بارتفاع بنحو 35 في المائة مقارنة مع 2011، فيما بلغ متوسط قيمة الصادرات عن الفترة (2000-2012) مليار درهم بنسبة نمو سنوي بلغ في المتوسط 17 في المائة.
أما قيمة الواردات من دول المجلس، خلال 2012 ، فقد بلغت 31 مليار درهم، بارتفاع قدره 7 في المائة مقارنة مع 2011، فيما بلغ متوسط قيمة الواردات عن الفترة (2000-2012) 16 مليار درهم بنسبة نمو سنوي تعادل في المتوسط 22 في المائة.
وبقراءة هذه الأرقام، يدخل أيضا ضمن الثابت رجحان كفة الميزان التجاري لفائدة دول مجلس التعاون نتيجة واردات المغرب من المحروقات والمواد النفطية، حيث يصل العجز لفائدة هذه الدول إلى حوالي 30 مليار درهم متم 2012 في مقابل 28 مليار درهم سنة 2011.
وإذا كانت تلك بعض ملامح مشهد علاقات المغرب بدول مجلس التعاون الخليجي ببعض ثوابتها ومتغيراتها، فإن محددات الصورة لا تكتمل إلا باستحضار التباينات الموجودة على مستوى حجم العلاقات التجارية والاقتصادية التي تربط المغرب بهذه البلدان على المستوى الثنائي، حيث تتقدم دول على بعضها في حجم المبادلات وحجم استثماراتها بالمغرب، كالإمارات التي وظفت خلال الفترة (2006-2011 ) نحو 17.53 مليار درهم بالمغرب، من حصيلة 30,71 مليار درهم تشترك فيها كل دول المجلس.
نفس التمايز يغلب على العلاقات المغربية الكويتية، حيث تتولى مجموعات كويتية مغربية الاشتغال على مشاريع تعاون كبرى بين البلدين، كالمجموعة المغربية الكويتية للتنمية العاملة في مجالات العقار والسياحة والصناعة والمال، وكذا الهيئة الكويتية العامة للاستثمار التي تنفذ مشروعين كبيرين موجهين للسياحة الداخلية بمنطقة افران ومنطقة سيدي عابد قرب الجديدة، والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية الذي شملت مساهمته 37 مشروعا إلى حدود 2010، وقدم 37 قرضا للمغرب بلغت قيمتها 1333 مليون دولار خصصت لتمويل مشاريع متنوعة من بينها السدود والطرق والفوسفاط.
وتمثلت آخر مساهمات الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في تقديمه لقرضي يهم الأول اتفاقيتي القرض والضمان الخاصتين بمشروع تطوير شبكة النقل الكهربائي بالمناطق الجنوبية للمملكة، بقيمة 20 مليون دينار كويتي، فيما يتعلق الثاني بتمويل مشروع القطار فائق السرعة طنجة الدار البيضاء، بقيمة 40 مليون دينار كويتي، وبذلك تكون مجموع القروض المقدمة للمغرب من طرف الصندوق حوالي 420 مليون دينار كويتي.
كما تتميز العلاقات مع بعض دول المجلس بجملة من الاتفاقيات المفعلة، بينما تبدو أخرى أكثر احتشاما على هذا المستوى، حيث يرتبط المغرب، على الخصوص، بالإمارات العربية باتفاق للتبادل الحر تم توقيعه في 27 يونيو 2001 (دخل حيز التنفيذ في تاسع يونيو 2003)، ويربطه بالكويت اتفاق تجاري تم توقيعه في يونيو 2010، إلى جانب اتفاقيات تجارية وجمركية موقعة مع كل من المملكة العربية السعودية (6 شتنبر 1966 ) وقطر في 27 فبراير 1990 (لم تدخل بعد حيز التنفيذ)، وسلطنة عمان في تاسع فبراير 1982 ( لم تدخل هي الأخرى بعد حيز التنفيذ).
ومن المرتقب، في إطار الشراكة الاستراتيجية الجديدة المغربية-الخليجية، التي تم بامتياز إرساء محدداتها خلال زيارة جلالة الملك الأخيرة لهذه الدول، أن يتم، وفق ما أعلن عنه مستثمرون خليجيون خلال الملتقى الثالث للاستثمار الخليجي المغربي الذي احتضنته طنجة في أبريل الماضي، ضخ 100 مليار دولار كاستثمارات خليجية في المغرب تشمل قطاعات السياحة والصناعة والزراعة والتعليم والصحة، إضافة إلى مشاريع استراتيجية كالطرق والموانئ وتحديث البنى التحتية.
وبالتأكيد لن يكون لمؤشري الثابت والمتغير في علاقات المغرب ببلدان مجلس التعاون الخليجي (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان) من فاعلية، ليس فقط كوسيلة لقراءة هذه العلاقات، وإنما كمحركات أساسية لديناميتها، إذا لم يتم استحضارها في مسار مراكمة التجارب بين الجانبين في اتجاه بناء علاقات تعاون وطيدة متنوعة ومثمرة أكثر للجانبين وتمتلك كل أسباب النجاح لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.