حين نتحدّث عن الكتابة واللوحة نكون في حضرة الابداع، أيْ بين الكتابة والفرشاة. وإذا كانت الكتابة الإبداعية تعتمد على بعض العناصر مثل الاستعارة والمجاز والجناس وغيرها، فإنّ اللوحة تتوسّل السند والمادة واللون، بحيث تُحاول من خلال هذه العناصر الفنية الاشتباك مع الذائقة الشعورية للفنان من أجل التعبير عن بعض القضايا والإشكالات ذات الصلة بذاته ومجتمعه. بل إنّ هذا الانتقال من الكتابة إلى اللوحة، لا تتحكّم فيه عوامل مادية بل دوافع جمالية تجعل الشعراء والروائيين يغوصون في عوالم اللوحة وعوالمها.
ورغم أنّ الفن التشكيلي لا يحظى باهتمام كبير داخل الثقافة المغربية، على الرغم من وجود أرضية صلة وقويّة، فقد استطاعت أسماء من قبيل عبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون وماحي بينبين وحسان بورقية وغيرهم من الفنانين الذين زاوجوا في تجاربهم بين الكتابة واللوحة. فالتعبير بالصورة بعد الكلمة، يُعتبر بمثابة خرق لنسق التفكير وإمكانية فنية لقول ما لا تستطيع الكلمة قوله. بل هي طريقة في تأمّل الواقع من زاوية الألوان.
حظيت الفنون التشكيلية بمنزلة كبيرة داخل الثقافة المغربية، بعدما استطاعت مجلة « أنفاس » ولأوّل مرّة ادراج الفن التشكيلي داخل صفحاتها الثقافية. هناك سيتبادر للذهن ولأوّل مرّة أهمية الفنون التشكيلية داخل ثقافة مغربية ترزح تحت التقليد. حيث جرى التعامل مع الممارسة التشكيلية، بوصفها مُكوّناً من مكوّنات ثقافةٍ تسعى للدخول صوب الحداثة. واعتبر ذلك العدد من مجلّة « أنفاس » التي كان يُديرها عبد اللطيف اللعبي، بمثابة أرضية قويّة لطرح قضايا التشكيل في علاقته بالبلد. وخلصت الدراسات والحوارات التي جرى الاشتغال عليها آنذاك، إلى ضرورة الاهتمام بالتشكيل في علاقته بالتراث المغربي، حيث سعى العديد من الفنانين الشكيليين إلى تقديم مجموعة من الآراء المعرفية تجاه التراث.
بل تم الانطلاق في ذلك الإبان صوب توسيع المدارك الإبداعية والتعامل مع التراث كمطية لدخول الحداثة التشكيلية. في وقتٍ لم يكُن فيه اللعبي يُفكّر في الدخول لممارسة الفن التشكيلي، كما هو حال معرضه المُنظّم قبل سنوات بمدينة مراكش، ثم المعرض الكبير الذي سيُقام ابتداءً من يوم الثلاثاء 8 يناير 2024 بمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر.
إلى جانب اللعبي، تُعتبر تجربة الطاهر بن جلون من التجارب الفنية الهامّة التي تُقدّم وعياً دقيقاً بسيرته وعلاقته باللون. ذلك إنّ بن جلون استطاع أنْ يُكرّس اسمه من خلال عدد من معارضه التشكيلية داخل المغرب وخارجه. يُلامس صاحب « ليلة القدر » عمق الكينونة البشرية في علاقتها بالطبيعة والبحر. إذْ تُبرز لوحاته وعياً تجريدياً في تركيب اللوحة ونفساً جديداً في توليف الألوان، وجعل المُشاهد يبتهج بالضوء وقوتّه. كما استطاع بن جلون في عدد من أعماله التشكيلية الانفتاح على الشعر وذائقته الجمالية، فحوّل الكثير من لوحاته إلى ما يُشبه السحر وهو يمزج داخل اللوحة بين خطاب شعري مكتوب وآخر فني بصري. أما ماحي بينبين، فقد حقّق تناغماً جمالياً بين اللوحة والرواية. مع العلم أنّ تجربته التشكيلية اليوم تبدو أصيلة في تناغمها وتواشجاتها الجمالية وقُدرته على ابتكار لغةٍ تشكيلية مميّزة.