الظاهرة ليست حديثة بالمرّة. ذلك إنّ التاريخ العربي الإسلامي منذ العصر الوسيط، يُظهر كيف حاول عدد من الفقهاء، أنْ يمزجوا بين طبيعة تفكيرهم الديني، وتطلّعهم الدائم صوب تحديث المجتمع. لكنْ على الأقلّ، كان الفقيه عالماً بأمورٍ عديدة وله من التحصيل العلمي ما يجعله يخوض في مناقشات عميقة مع أهل المعرفة. أما اليوم، فقد أتاحت وسائل التواصل تكريس التفاهة. وأصبح بعض الدعاة يُنافسون النجوم في السينما والتلفزيون، انطلاقاً من عدد الفيديوهات المنتشرة بوسائل التواصل الاجتماعي. مردّ هذه الظاهرة إلى غياب المثقف وانسحابه الكلّي من المشهد الإعلامي بسبب دوافع سياسية في مُجملها، ما جعل الفقيه يسترجع سُلطته الدينية ويُمارسها بشكل يوميّ على الناس.
قديماً كانت المساجد بمثابة المختبر الحقيقي بالنسبة للفقهاء من أجل تكريس الخطاب الديني باعتباره نمطاً من التفكير وطريقة في العيش. وكانت بعض المجالس الدينية دائماً ما يحتدم فيها الصراع، بين الفقهاء وممّن يعتبرون العقل برهاناً للحقيقة. وغالباً ما كانت تنتهي هذه المناوشات الفكرية والإيديولوجية بتدخّل السلاطين وانتصارهم لسُلطة الفقيه. ذلك إنّ الأنظمة السياسية القديمة، كانت تجد في هذا النمط الديني استمراراً لمصالحها وبرامجها، بل إنّهم يجدون في الخطاب الديني وسيلة لتكرير لتمرير قرارات سياسية تجاه المجتمع.
اليوم، لم تعُد لا المجالس ولا المساجد تُثير قلقاً بالنسبة للفقهاء ودعاة الحداثة. وذلك بعدما غدت وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بحلبة مصارعة بين الحداثيين والفقهاء. لقد غدا الفقيه مُفكّراً يفهم في الفيروسات والأمراض والعلوم والتكنولوجيا وغيرها. أصبح الداعية مثل الببغاء الذي يُعيد اجترار الكلام. لا يوجد داعية واحد يعتمد في خطابه الديني على المنطلق المعرفي، مُستخدماً العقل والعلم والمعرفة في سبيل إرشاد الناس. إنّ غياب المفكّر الحداثي، يُساهم ضمنياً في تكريس سلطة الفقيه، وذلك بعدما وجد المثقف نفسه معزولاً عن المجتمع ومنبوذاً من المجالس العلمية، بدون أيّ مكسب معنوي أو مادي. ويُعد المفكّر أبو حيان التوحيدي نموذجاً لهذا النوع من المثقفين الذين وجدوا أنفسهم في نهاية حياتهم بدون مأوى أو أيّ شيء. إنّ السلطة السياسية على مدار تاريخها لم تكُن تهتمّ بالمثقفين، لأنّهم كانوا بمثابة إكسيسوار في مجالسها يعطونها الشرعية السياسية للاستمرار.
وهذا الأمر، نجده اليوم حاضراً في الأحزاب السياسية التي يوجد بها عدد من « المثقفين ». غير أنّهم بدون صوت ولا لون. إنّهم مجرّد إكسيسوار يقدّمون الخدمات للحزب ويواصلون تضليل المجتمع بالوعود ويبتكرون الخطابات السياسية ويُسوّغون أجنداتها الفاشلة.