أنْ تُحقّق أغنية واحدة كلّ هذه الشهرة الكاسحة، في ظرفٍ وجيزٍ، أمرٌ يدعو بداهة إلى الاعجاب والافتتان بالأغنية وسيرتها. ذلك إنّ التجارب الجديدة أصبحت تفرض معايير أخرى في تلقّي العمل الفنّي، غنائياً كان أم سينمائياً. بل إنّ بعض وجوه الألفية الثالثة، قد غيّرت الكثير من الذوق العام وعطّلت العديد من مفاهيم الجماليّة الحديثة المُستندة إلى قيمٍ لم تُعد قادرة على البقاء في زمنٍ زئبقيّ مُتحوّل، ما إنْ ننتهي فيه من سماع أغنيةٍ، حتّى تأتي أخرى فتجُبّ التي قبلها. بهذه الطريقة عكّر عمر سهيلي المعروف بلقبه الفنّي « ديزي دروس » مزاج العديد من الفنّانين المغاربة من بينهم دون بيغ ونعمان لحلو.
أوّلاً، بسبب الحلقة الخاصّة بفنّ الراب ببرنامجه « Pianissimo » الذي يُقدّمه لحلو، والذي اعتبره دروس تطاولاً على مجاله و« تخصّصه » بعدما وضّح دروس عشرات المعلومات التي وردت في الحلقة الخاصّة. أمّا الأمر، الثاني فإنّ المُتابع لسيرة الكليب داخل الاجتماع المغربيّ، سيتلمّس عن كثب نوعاً من « الحسد » من طرف فنّانين اعتبروا الأغنية ليست جيدة وأنّ ما قام به صاحب « مع العشران » يستطيع أيّ كان فعله، كما هو الحال في تدوينة نعمان لحلو بسبب ما لاحظه من ضعفٍ واستسهال في كتابة الأغنية وصُوَرها، والتي اعتبر فيها أنّه بإمكانه الدخول إلى « قلعة » دروس الفنّية وتهديمها من الداخل من خلال محاكاة أغانيه عن طريق الـ « كلاش ».
بغضّ النّظر عن الموسيقار المغربي والأسباب التي دفعته إلى الردّ على الرابور، فإنّ الأغنية تستحقّ التأمّل والتفكير. لا لأنّها تنتقد الوضع السياسيّ القائم وتسخر منه. فهذا أمرٌ موجود في تاريخ الراب المغربي والمغاربي عموماً، وسبق طرحه بطرق مُختلفةٍ من التعبير الفنّي والتوليف الموسيقي.
غير أنّ قُدرة أغنية شبابية واحدة على إسقاط أسماء غنائية عالمية لامعة من عرش الطوندونس، يدعو إلى التأمّل حول المعايير الجماليّة التي تستند إليها الجماهير الهلامية في تقييم هذا العمل الفنّي دون آخر، وكيف يهتدي المُستمع العاديّ في زمن المنصّات المُتبدّلة ويفهم طبيعة أغانيها ومعناها وينسج معها علاقة رمزية قوامها العشق؟ وما دور الناقد الفنّي في هذه الفوضى الجماليّة التي تجعل الجماهير تُفضّل أغنية عن الأخرى، رغم ما قد يشوبها من استسهال وتكرار؟
إنّ الذين تحدّثوا عن « مع العشران » لم يتعاملوا مع الأغنية، إلاّ بوصفها خطاباً احتجاجياً يُعرّي المآزق السياسيّة والاجتماعية التي تطال البلد. لكنّهم لم يقربوا الأغنية من الناحيتين الفنّية والجماليّة والأسباب التي جعلتها مُحبّبة من لدن الناس وتنتشر بكلّ هذه السرعة وتخرج من الجغرافية المغربيّة وتخترق الكارطوغرافية العالمية وتُثير نقاشاً كبيراً، رغم ما ألمّ به من نقد، يبقى صحياً بالنسبة للفنّ بصفةٍ عامّة. لكنْ هذا النقاش كان ينبغي أنْ يخرج من ثقافة السب والقذف إلى فضاءٍ أرحب، يتمّ فيه إغناء النقاش وتُعطى فيه إمكانية للناقد الفنّي أنْ يتدخّل ويُدلي بدلوه في الموضوع.
إذا نظرنا إلى الأغنية من ناحية النصّ، فلا جديد يُقدّمه دروس. فالنقد موجودٌ في الأغنية « الرابوية » وأحيانا بكلماتٍ تخرج عما يُمكن تصوّره، بما جعل الخطاب يتّبع نسقاً نقدياً همّه الوحيد قول ما لا يُقال أو ما لا يستطيع الآخر قوله والنتيجة ظلّت حتمية تُعيد تكرار كلام لا يبدو جديداً بالنّظر إلى ما حقّقه الراب.
تتجلّى قوّة « مع العشران » في قُدرة دروس على اجتراح صُوَرٍ جديدة عن طريق الكليب الذي لا يبدو مُتصدّعاً، وإنّما يختزن كثيراً من المَشاهد الجماليّة التي تُضمر قوّة وتكثيفاً على مُستوى الاشتغال عن طريقة اختيار صُوَرٍ مُستفزّة للمُشاهد، رغم أنّها تُذهله وتُفرحه وتجعله مُندهشاً ومُنتشياً بالسحر الذي تُمارسه عن طريق الأصوات والأجساد والألوان، إنّها تفتنه وتنقله إلى عوالم كازابلانكا الساحر بكلّ أفراحها وأحزانها. مع العلم أنّ الكليب، لا يكاد يخلو من صورة بريئة، لأنّ أغلبها يطغى عليها الرسائل المُشفّرة، التي تُضمر في جوفها عشرات الرسائل السياسيّة النقديّة التي يُوجّهها الفنّان إلى السياسة وكواليسها، كلّ هذا يجعل الأغنية أصيلة من حيث المبدأ، لكنّها لا تأتي بأيّ جديد يُعوّل عليه موسيقياً.