لم يعُد غريباً في المغرب أنْ تُباغتنا من حينٍ لآخر، تدوينات نقاد وممثلين عن جودة سيتكومات هزلية لم يتمّ عرضها بعد، لكنْ مع ذلك يتحدّث عنها الفنّانون بقوّة باعتبارها حقائقٌ يعرفها الناس جيّداً. والحقيقة أنّ مثل هذه التداريب الإنشائية في فنّ الخطابة والمدح، لا تُضمر في طيّاتها سوى أمرين، الأول: الابتذال الذي باتت تعرفه الساحة الفنّية في المغرب وعدم قُدرتها على خلق أيّ جديدٍ يُعوّل عليه فنّياً. بحيث بدت السيتكومات الهشّة أمراً عادياً بالنسبة للمُشاهد، يتم تسويقها على أنّها مميّزة. مع العلم أنّ مُجمل السيتكومات القديمة تبدو في مُنطلقاتها الفنّية والجماليّة أكثر قوّة من التي يتمّ إنتاجها اليوم.
إذْ رغم هشاشة الصنعة من الناحية التقنية، إلاّ أنّها مواضيعها مُذهلة، لا تلهث وراء الإكليشيه ولا تجري النجوم باستغلال صُوَرهم الأيقونية داخل السيتكوم، بقدر ما ترصد بقوّة وفق نفسٍ ساخر تحوّلات المجتمع المغربي من قضايا وإشكالات تطال المجتمع.
أمّا الأمر الثاني، فلا شكّ أنّ غياب الناقد الفنّي الحصيف والمُتابع لأطوار المسلسلات الدرامية والأفلام التلفزيونية والسيتكومات، ساهم منذ بداية الألفية الثالثة في تكريس هذه التفاهة المُتأنّقة التي باتت تُمطرنا بها السيتكومات وبمُشاركة وجوهٍ لا أحد يعرف أين درست ولا من أيّ مشروع فنّي خرجت، لنُصاب في نهاية الأمر، بنوعٍ من الجنون البصري الذي لا يقبل التحليل والتأمّل. فكيف يجوز أنْ يُصبح المغنّي ممثلاً وهو لا يعرف حتّى المبادئ الأولى لفنّ الأداء؟ في وقتٍ نرى فيه عشرات الفنّانين عاطلين عن العمل منذ سنوات، إذْ لا أحد يدعوهم للمُشاركة والعمل في أعمال فنّية مُعيّنة.
رغم أنّ المخرج المغربي يتحمّل بعضاً من مسؤولية هذه الفوضى البصريّة التي تبقى في الحقيقة تخدمه، فبدل البحث عن وجوهٍ فنّية جادّة تُعطي للعمل الفنّي أصالته ورونقه، يتم الاستعانة بأشباه الممثلين والممثلات، ممّن لا خبرة لهم سوى في طرب القول وتأجيج فرجةٍ بائسة على وسائل التواصل الاجتماعي عبر تدوينات وجرعات ساخرة من ذواتهم، قبل أنْ تكون فنّاً وجمالاً.
ليس السيتكوم مجرّد إناءٍ فارغ من الأفكار والرؤى والموضوعات، فهو يُعدّ أكثر الأجناس الفنّية صعوبة داخل التلفزيون، لكونه يشتغل وفق نظامٍ بصريّ مُتشابك وخطابٍ بصريّ مُركّب، لا يسعى جاهداً وراء الإضحاك فقط، وإنّما تمرير رسائل سياسيّة واجتماعية أكثر وعياً بحساسية المرحلة. فصورة السيتكوم دقيقة ترصد أحوال الناس وطبائعهم داخل البيت والمدرسة والعمل، بما يجعلها تلتقط إشارات صغيرة وتُحوّلها إلى مَشاهد فنّية هزلية لا تتوقّف فقط عند جماليّات الحوار وصنعة التأليف، ولكنْ أيضاً من خلال قُدرة الممثّل / الممثّلة على الدفع بالمَشهد إلى حدوده القصوى من خلال عنصر الأداء. وفي هذا الأمر، ما يجعلنا نعود إلى أهمية الممثل وضرورة أن يكون فنّاناً حقيقياً يعرفه الناس، بما يُقدّمه من سيتكومات ومسلسلات وأفلام، لا بما يطرحه من « كلاشات » و« تدوينات » و« صُوَرٍ » يُريد من خلال ذلك أنْ يتموقع بها داخل المَشهد الفنّي.
والحقيقة أنّه في خضمّ التحوّلات البصريّة التي عرفها الإنتاج الفني المغربي في السنوات الأخيرة، تستدعي ضرورة الخروج من شرنقة تكرار الموضوعات وجعل فضاءات السيتكوم عبارة عن صالونات أشبه بالفنادق أو أمكنة العمل، صوب فضاءاتٍ مفتوحة تتّصل بالفضاء العمومي، بكلّ ما يعرفه من روائح ومَشاهد وصُوَرٍ وألوان، تُعطي للصورة بُعدها الجمالي الخلاّق، بوصفها صناعة فنّية مُبتكرة تقوم على عنصر التخييل، بدل أنْ تكون مُستلبة وفارغة من المعنى داخل صالونات ضيّقة مُغلقة تتحرّك فيها سيّر هشّة وشخصياتٌ مُبهمة ومصائر مُرتبكة.
في أغلب السيتكومات الجديدة، بدأت تُطالعنا بعض إرهاصات لسلوكات أو اختيارات تستدعي النّظر، يبقى أهمّها سطوة النجوم، بعدما اختار العديد من المخرجين المغاربة « تشكيل » و« تجميع » أكثر الوجوه تأثيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارهم في نظره يُمثّلون « صفوة » فنّ الأداء، مع العلم أنّ أغلبهم يُكرّر نفسه من خلال مسلسلات وسيتكومات، وغير قادرٍ على إيجاد هويّة فنّية جديدة لجسده، وذلك عبر السفر في شخصياتٍ جديدةٍ غير مألوفة تُعطيه إمكانية التجديد والابتكار، بعيداً عن التكرار.