لعب اليسار دوراً بارزاً في جعل الثقافة حديثة وأكثر صلة بالتحولات التي كانت تطرأ على المجتمع المغربي. نزوع اليسار إلى الحداثة ونقد الاستبداد ودحض الأفكار التقليدية التي حاول الإسلام السياسي تكريسها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، جعل المجتمع ينتبه إلى هذه الشرارة الخفيّة التي حاول اليسار فرضها. حين يتحدّث المرء عن ثقافة السبعينيات يقفز إلى ذهنه الفرق الموسيقية مثل ناس الغيوان ولمشاهب وجيل جيلالة وأيضاً أسماء فكرية مثل عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وطه عبد الرحمان ومحمد عابد الجابري، ثم أسماء أدبية أخرى كمحمّد بنيس ومحمد الأشعري وعبد الله زريقة ومحمّد برادة وغيره. أسماء ثقافية لا يُمكن للمرء الاستغناء عنها، وهو يُفكّر في تأثير هذا الجيل ليس على الثقافة ولكنْ حتّى في نمط العيش ومعايير الجمال وحدود الالتزام.
إنّ هذا الجيل رغم التضييق الذي كان يُمارس عليه من لدن رجل السياسة، إلاّ أنّه استطاع أنْ يُبلور فكراً حداثياً قوياً يصعب فصله عن الالتزام السياسي، طالما تربى هذا الجيل في أحضان الشبيبة الاتحادية ومارس بثقافته الرمزية ضغطاً قوياً على الأحزاب للخروج من التقليد والتطلّع إلى الحداثة ومباهجها المُضيئة في ليل البلد.
أعترف بأنّني تعلمت كلّ شيءٍ من جيل السبعينيات، إذْ طالما مارس الكتاب والفنانين والمخرجين سحراً على ذائقتي وأنا طفل. غير أنّ هذا الافتتان بهذا الجيل لم يجعلني أسيراً لكافّة أفكاره وهواجسه. إذْ ثمّة الكثير من الاختلافات السياسية أو طبيعة مفهوم الالتزام الذي ظلّ هذا الجيل يؤمن به. إنّ ثقافة السبعينيات نعيشها اليوم كقدرٍ ثقافي، بحيث لم تستطع الأجيال اللاحقة أنْ تنتج خطاباً فكرياً أصيلاً يوازي مؤلفات وأعمال هذا الجيل. بل لم تعمل التجارب الجديدة على إعادة تثمين كتاباتهم ومواصلة مشاريعهم الثقافيّة وفق منظورٍ آخر، يُتيح للباحث أنْ يستكمل مشروعاً ثقافياً يستفيد منه المجتمع.
اليوم حين أشاهد أفلاماً وأحضر معارض فنية وأتابع تصريحات المجتمع المدني حول الحرية والديمقراطية والجنس، فإنّ تفكيري يذهب مباشرة صوب هذا الجيل الذي نحن اليوم مدينون له ثقافياً وسياسياً. عانى هذا الجيل من مختلف أشكال العنف سواء من طرف السلطة أو من لدن الإسلام السياسي الذي ذهب ضحيته الكثير من المثقفين الحداثيين بعدما قرروا مغادرة البلد بسبب توغّل الحركات التقليدية وجعلها من الرأسمال الديني وسيلة للنزاع السياسي داخل سوق المضاربات الإيديولوجية.