اليوم، وفي غمرة التحوّلات التي بات يعرفها المغرب، يبرز التاريخ باعتباره هوية للشعوب في مقاومة مظاهر التخلّف والانحطاط. إنّ زمن العولمة زئبقي ومُتوحّش. زمن يُصبح فيه العالم صغيراً وتختفي فيه الحواجز بين الدول. لهذا تُشكّل قراءة التاريخ أكبر وسيلة لمُجاوزة هذا الانحطاط ومقاومة التصحّر وصعوبة المرحلة الراهنة. غير أنّ التاريخ المدرسي غير مُفيد من ناحية تأمّل المستقبل، لأنّه تاريخ عبارة عن معلومات حول المقاومة المسلحة والحركة الوطنية والحضارات القديمة وعلاقاتها بدول الجوار وغيرها من الموضوعات التي تظلّ تُطارد الناس حتّى داخل التعليم الجامعي. لم يستطع التعليم الأولى التأثير في التلميذ بطريقة تجعله عاشقاً لقراءة تاريخه وذاكرته. إنّنا أمام منظومة تعليمية، لا تُشجّع المرء على قراءة التاريخ، على أساس أنّه علم يهتم بدراسة الماضي فما جدواه اليوم في قراءة الراهن؟
هذا الرأي عمّر طويلاً، ونتج عنه إهمال كبير في قراءة التاريخ الوطني والاستفادة من دروسه وتجاربه ومواقفه لقراءة اللحظة الراهنة والمُتشنجة التي يعرفها البلد لمواجهة مُختلف مظاهر وتجلّيات العولمة. يتعامل المغاربة مع التاريخ باعتباره « حمار الجامعة » فهو لا يلقى ما يستحقّه من الاهتمام من لدن الباحثين في التاريخ أنفسهم، فكيف يُمكن لشخص درس العلوم والاقتصاد والآداب، أنْ يُؤمن بأهمية التاريخ في قراءة اللحظة الراهنة؟ إنّ التاريخ ليس مجرد أحداث وقعت في الماضي، بل هو طريقة في النّظر إلى الراهن والمستقبل. لكنّ التاريخ كما يُدرّسونه في الجامعة مجرّد أحداث سياسية ووقائع اجتماعية أعترف أنّها لا تُفيد المرء في قراءتها في حالة ما لم يكُن وعي مُسبق في مدى تأثيرها في الراهن.
لا يقرأ المغاربة التاريخ، لأنّه في نظرهم عبارة عن معرفة مرتبطة بالماضي. لكنْ إذا كانوا لا يستوعبون وظيفة التاريخ في خدمة الماضي، فهذا راجع إلى طريقة تلقين هذا التاريخ والتعامل معه على أساس أنّه معرفة ماضوية لا تخدم الحاضر. إنّ التاريخ الحقيقي نعيشه اليوم داخل المغرب في الساحات والمواقع الأثرية والمتاحف والحانات والمقاهي والصالات السينمائية العريقة. التاريخ ليس ما يُدوّنه لنا المؤرّخون الكتب والمخطوطات، وإنّما ما نستنشقه من هواء داخل فضاءاتنا العمومية. التاريخ كائنٌ حيّ يعيش داخلنا ومنه نستلهم قوّتنا كمغاربة. التاريخ هو انعكاس لما كان في الماضي وهو شكل من أشكال الوجود القديم، سواء تعلّق الأمر بالموروث الشفهي من قصص وحكايات وأمثال، أو في شقّ المادي المُرتبط بالمواقع واللقى الأثرية.
قراءة تاريخ المغرب، ستُمكّننا من فهم البلد ومعرفة موقعه الجغرافي المُطلّ على واجهتين بحريتين، وكيف ساهمت الحضارات القديمة في تشكيل تاريخه وذاكرته. فحين السوسيولوجي الراحل بول باسكون أنّ المجتمع المغربي مُركّب من ناحية نسيجه الاجتماعي والطبقي فقط، بل يعود بشكل أساسي إلى أهمية تاريخه والحضارات الكثيرة التي تعاقبت عليه والتي ساهمت في إنتاجه بهذه الطريقة التي عليها الآن. من ثمّ، فإنّ قراءة التاريخ لا تُتيح لنا معرفة أحوال الماضي وإنّنا التطلّع بعنوان صوب المستقبل.
لا يملك المغاربة إلاّ التاريخ، فهو وجهتنا صوب العالم. إنّ الاهتمام بالتاريخ سينمائياً وأدبياً يقودنا إلى التأثير في الآخر من خلال إنتاجاتنا الأدبيّة والفنية.