تعاني القصّة القصيرة اليوم، من مختلف أشكال التهميش والنسيان. والسبب له علاقة أساساً بالحظوة الوهمية التي باتت تتنزّلها الرواية داخل المؤسّسات الثقافيّة. تهميشٌ لا يُمكن تبريره معرفياً مهما ادعى « النقاد ». في وقتٍ ينسحب فيه كتّاب القصّة والشعر إلى الخلف، وهم يفسحون المجال إلى المتن الروائي. بل إنّ بعضهم تخلّى نهائياً عن كتابة الشعر لصالح الرواية. ورغم هشاشة نصوصه الروائية، تراه يُقدّم نفسه كروائي ويعمل جاهداً على الكتابة في هذا الجنس الذي يصعب القبض عن ملامحه وتلابيبه وميكانيزماته، إذا لم يكُن للمرء ثقافة واسعة وسياحة طويلة في خبايا السرد بشكل عام وقُدرة مميّزة ومُتفرّدة على التخييل والقبض عن مسار الشخصيات الواقعية وجعلها تمتطي صهوة المتخيّل.
والحقيقة أنّ هذا الاستسهال في كتابة الجنس الروائي والذي تُدجّجه وهمياً الجوائز المادية، يلعب دوراً سيئاً في تاريخ الأدب العربي المعاصر، ويُحوّله إلى عملية براغماتية خاضعة لمنطلق العرض والطلب. كيف يجوز الكتابة في جنسٍ أدبي، دون غيره، فقط لأنّه يحظى بالاهتمام من لدى القارئ؟
حين عمد كلّ من حنا مينا وعبد الرحمان منيف ومحمد شكري ومحمد زفزاف وغيرهم إلى الكتابة الروائية، كان ذلك نتيجة ما استشعروه في ذواتهم، في كون هذا الجنس قادر على احتواء أحلامهم وآلامهم وعذاباتهم تجاه التاريخ والذاكرة والواقع. لم يكتب شكري «الخبز الحافي» و«زمن الأخطاء» لأنّ الرواية تُقرأ أكثر من الشعر والقصّة. بل لأنّه مُؤمن بأنّ النصّ الذي كتبه بجسده قادرٌ على التنزّل في قالب روائي، لأنّ له من الخصائص السردية والتشكّلات الفنية والمغامرات التجريبية، ما يجعله نصّاً روائياً وليس شعرياً أو قصصياً.
ما فعله صاحب «عيون الغرقى» أنّه قلبَ المعادلة الأدبيّة، مُتوجّهاً من الشعر صوب القصّة. وهذا الأمر نادرٌ بالمرّة، لأنّه يُضمر نوعاً من التواضع الأخلاقي الشديد تجاه فعل الكتابة، رغم أنّ نصوص المجموعة قادرة أنْ تغدو نصّاً روائياً، بسبب الخطّ الزمني المُتشابك الذي يُلجم أفقها، ناهيك عن شخصياتها المحلية وتدرّج خطوطها الدرامية. لم يُسمّي الكاتب نصّه روائياً، لكنّه اكتفى بمجموعة قصصية. إلاّ أنّ العبور تجاه القصّة تفضحه على مُستوى الاشتغال اللغوي حساسية حسين الشعريّة الرفيعة في بناءها ومجازاتها واستعاراتها وتوهّجها. إنّها كتابة تُخرج القصّة من إطارها التقليدي الرتيب وتفتحها على أرفع أشكال القول الفنّي. إنّ الشاعر هنا، حين يلجأ إلى القصّة، فهو يُحمّل حقائبه بكلّ ما تُضمره من مجاز وتشبيه واستعارة ولغةٍ غامرة بالدفق الوجداني الأصيل.
والحقيقة أنّ هذا التجريب الجمالي الذي قام به الكاتب في مجموعته الأخيرة، يترك انطباعاً هامّاً لدى القارئ بأنّه أمام كاتب محترم وعارف بخبايا السرد الأدبي وتحوّلاته في الزمن المعاصر. تحوّلات مفاهيمية يتغاضى عنها كبار الكتاب ويتعاملون مع الكتابة السردية وكأنّها ضربٌ من الميتافيزيقا (اللاهوت بالضبط).
إنّ أوّل ملمحٍ فكريّ يُميّز الكتابة «المعاصرة» ليس الانتماء إلى الواقع الفيزيقي الذي نكتبه من خلاله، بل من ضرورة فهم مفهوم « الخرق » واستيعاب مختلف أشكال العبور والتواشجات الجمالية التي تحدث بين الأجناس الأدبيّة ونظيرتها الفنية. والحقّ أنّ هذا الحدس بأنطولوجيا التحوّل والعبور، تتبدّى واضحة في المجموعة، إذْ هناك وعيٌ دقيق لا بشعريّة النصّ فقط، بل من خلال بناء نُظُم سردية جديدة داخل النصّ من خلال اللاوعي الشعري. ثمّة اختلاف كبيرة بين أنْ يُصبح النصّ القصصي مُنطبعاً بحمى الشعر، وبين أنْ تغدو الكتابة السردية أفقاً لتطويع الذائقة الشعرية. ما فعله صاحب « العالي يُصلب دائماً » يُعتبر أرفع أشكال الحداثة الأدبيّة التعبيرية، لأنّه مفهوم لم يتبلور بعد داخل الكتابة الأدبية العربيّة.
أميل إلى الاعتقاد بأنّ ما كتبه الكاتب حسين جلعاد في مجموعته القصصية الجديدة « عيون الغرقى »، يكاد يكون كتابة مختلفة على جميع المستويات. النصّ سلس ولا يرهن نفسه بالرطانة المعرفية، رغم أنّها مُترسّبة في ذاتية الكاتب، ولا أيضاً بالتدريب الإنشائي البلاغي الذي قد يُحوّل فعل الكتابة الأدبيّة إلى لغةٍ هيروغليفية مُلغزة، يصعب تلمّس منطلقاتها الفنية وملامحها الجماليّة. هذه البساطة في الحكي نابعة بالأساس من بيئةٍ أردنية متبدّلة ومن زمنٍ ظلّ فيه الكاتب، يُطارد سراب اليسار ويُحاول عبر هذا التوجّه الإيديولوجي النبيل، أنْ يبني ذاته ومواقفه تجاه العالم ككلّ.
حين تقرأ مجموعته الجديدة، يكبر فيك جُرح السؤال: كيف يُمكن للقصّة أنْ تغدو وطناً مُتخيّلاً يرنو إليه الكاتب كلّما ضاق به واقعه؟ غير أنّ الكتابة هنا، ليست هروباً مباشراً من الواقع وتصدّعاته، بل هي انخراطٌ مُكثّف في وقائعه وأحداثه وشكلٌ من أشكال المقاومة تجاهه. مقاومة تبدأ بفعل التذكّر والنوسطالجيا بين إربد وعمّان. يقول «أتذكر أيلولك الأوّل حين أدركتَ العالم لأوّل مرة؟ من قال إن الطفل لا يتذكّر أيامه وسنينه الأولى، أنت تعرف أن الكبار مخرفّون على نحو مضحك، ولا يذكرون شيئاً».
يأخذ مفهوم التذكّر صبغة مُتجدّدة داخل المجموعة، فهو ما يرسم أفقها ويُحوّل مَشاهدها وحالاتها إلى صُوَرٍ سينمائية. ويبدو النصّ الأوّل «أسرار معلنة: رجع أيلول» وكأنّه نصّ شعري يفضح المجموعة كلّها، ويكشف أفراحها وأحزانها. النصّ يُضمر أكثر ممّا يُظهر، إنّه يبوح ويخفي في آنٍ واحد. يفتح العين على دوامة واقعٍ مُتحوّل وينسج في نفس الوقت نَسْلاً من الأسئلة الموجعة عن ذلك الماضي البعيد / القريب.
ثمّة شيءٌ مُحزنٌ في كتابة جلعاد، يشعر به المرء على مستوى لغته الشعرية الدفقة الغريزية المُنسابة عبر شلالة اللاوعي. حزنٌ يتجلّى في نصوص مُعيّنة، لعل نصّ أيلول يفضحه ويبني من خلال سيرة المجموعة. هذا الألم تجاه الماضي يستشعره القارئ فيشعر أنّه ألمه الشخصي، أو أنّه يروي سيرة ألم كل الأجيال العربيّة الجديدة التي وجدت نفسها ابتداء من تسعينيات القرن المنصرم، أمام واقع سياسي مُتبدّل وكاذب (كائن سماوي) حاول التقليدانيون وسدنة الأنظمة الفاسدة جعله مُنطبعاً وموشوماً داخل الحرم الجامعي.
إنّ تعدّد الأزمنة، بين جماليّات الماضي وقهر الحاضر والتطلّع بعنفوان صوب المستقبل، يعطي للكاتب إمكاناتٍ كبيرة من التخييل، ويدفعه إلى البحث في خزّان ذاكرته عن قصص عاشها في طفولته وصباه ومرحلة شبابه طالباً بالجامعة حين كان مُنغمساً في صفوف أحلام اليسار وجدل المثقفين (الذين يخفون تحت جلودهم بزّات عسكرية » على حد تعبيره.
أكتب في هذا الوقت المتأخّر من الليل، وأنا على وعي بأنّ ما كتبه صاحب « عيون الغرقى » يكاد يكون كتابة تلقائية مُدهشة وعميقة وامتداد حقيقي لما عاشه جلعاد في إربد وعمّان. بل إنّ فهرس المجموعة ومحكياتها المتجذّرة في البيئة الأردنية وعوالمها المُتخيّلة، تترك انطباعاً لدى المُتلقّي بأنّه أمام كتابة مُختلفة وجديدة مُضادة للبلاغات التقليدية العربيّة وتخييل سرديّ عابرٌ للحدود، بما يجعل النصّ يتجاوز رقعته الجغرافية المحلية وينفتح على آفاقٍ رحبة تتشابك مع أحلام ورغبات وهواجس عموم الشباب بالعالم العربي، خاصّة في مرحلة سياسية مفصلة في تاريخ الشعوب العربية، وما رافقها من اعتقالات وانتكاسات واجهاضات، كان لها أثرٌ بالغ خلال تسعينيات القرن الـ 20.
ثمّة قوّة مُظلمة مُدهشة وخفيّة وساخرة في ذاتية الكاتب، تتآلف مع خلائط سردية متنوعة تنتفي فيها الحدود والسياجات بين الأجناس الأدبيّة، فتحضُر الكتابة باعتبارها خطاباً مُركّباً وعلامة وجودٍ عن حياةٍ موجعة ويوميات قهرٍ مريرة عاشها الكاتب رفقة جيله، حتّى غدا المنفى بمثابة وطنٍ مُتخيّل وملاذٍ آمنٍ للاحتماء بحرارة المرحلة وحساسيتها وعفونتها.