لكنْ إلى جانب هذا الأمر، تُساعد القراءة على طرد أشباح الجهل وإقامة فكرٍ تنويريّ لا يؤمن بالثبات، بقدر ما يظلّ دائم التحوّل والجريان. وهذا النمط من التفكير يكون حداثياً ويمتلك قوّة مؤثّرة في تهديم الأفكار واليقينيات السطحية المُميتة، وذلك لأنّه فكر مبني على النقد وعلى ثقافة عدم الاستقرار. وفي مقابل حداثة الفكر هناك نمطٌ من الفكر الجامد والتقليدي الذي لا يشغل باله بأيّ نقدٍ وتفكيك. لذا فهو لا يُنتج أيّ شيء ولا يعطي رأيه في السياسة وقضايا الشأن العام، طالما أنّه فكرٌ يقيني ينظر إلى الأشياء بوصفها حقائق وإلى الثقافة باعتبارها فولكلوراً.
بيد أنّ هذا النمط الثاني من الفكر هو الذي يظلّ سائداً في اجتماع مغربي مُعطلّ، لا قدرة له على الجري وراء الحداثة ومطاردة نماذجها الكبرى في الغرب. إذْ رغم ادعاء بعض هؤلاء في كونهم حداثيين ولهم القدرة على تبيئة بعض مفاهيمهم حسب التحولات التي شهدها الواقع، سياسياً وثقافياً، فإنّ أفكارهم تُظهر عجزاً كبيراً في استيعاب مفاهيم الحداثة وأنساقها. إنّنا هنا أمام فكرٍ يُماري المؤسّسات السياسية ويُسوّغ أفكارها ويُدافع عن أخطائها لدرجةٍ تُصبح فيه بعض الأقلام وكأنّها امتدادٌ عميق لبعض الأحزاب السياسيّة وأبواقها. إذْ رغم التحولات الأنطولوجية التي عرفها الواقع، لم تتحرّر الثقافة المغربية من تبعية الثقافي للسياسي، أيْ أنّ هذا الأخير، يبق محرّكاً أساسياً للثقافة، حيث تغدو في أجنداته مجرّد إكسيسوار.
لا يعترف السياسي بالثقافة ولا يؤمن بها، لكنّه يجد نفسه مُرغماً للاهتمام بها بشكل سطحي عبر افتتاح الأنشطة الثقافية والأعمال الفنّية بسبب التأثير الذي تتركه الثقافة والفنّ على أجساد الناس. لكنّه تأثيرٌ لا يعني السياسي إلاّ بوصفها « بريستيجاً » سياسياً يقوده بشكل خفيّ إلى البحث عن مكان دافئ له وسط المثقفين. لا يُمكن تحقيق أيّ نهضة ثقافيّة في وقتٍ ما يزال فيه المثقف تابعاً للسياسي. فحتّى المثقفون الذين أتيحت لهم الفرصة لدخول غمار السياسة عبر الوزارة أصبحوا سياسيين أكثر من كونهم مثقفين. فالسياسة عبارة عن جرثومة تُلوّث الأجساد وتُحوّل الأفكار إلى شكل جديد من السلطة.
تؤثّر القراءة في عملية تكوين المرء وفي تنشئته الاجتماعية. فإذا كان المرء منذ طفولته يقرأ كتابات عبد الله العروي والطيب التيزيني وحسين مروة ومهدي عامل، فيستحيل أنْ لا يكون فكره يسارياً وينطبع بمسحة حداثية. وذلك لأنّ القراءة تُشذّب الفكر وتدفع الناس إلى التأثّر بما يقرؤون. إنّها ترسم لهم طرقاً سياسيّة ومسالك تخييلية وسير حياتية لم يكونوا يحلمون بها. بهذا المعطى تصبح القراءة عنصراً أساسياً في تكوين سيرة المرء وحياته. فهي تُوجّهه وترسم له أفقاً فكرياً مغايراً. بهذا المعنى تصبح القراءة عبارة عن مسكن جديد للكائن، حيث تكون قراراته ومواقفه خاضعة لعملية القراءة نفسها أكثر من عامل التنشئة الاجتماعية. فهي تتحكّم في فهمه وتحليله وطريقة رؤيته للواقع، لكونها عملية تتمّ بشكل تلقائي وتتسرّب عبر اللاوعي الذي يُعيد لاحقاً إنتاج المكبوث النفسي والسياسي والثقافي.