من كان يتخيّل دفعة واحدة فوز كلّ من أسماء المدير وزينب واكريم وكمال لزرق بجائزة « كان » السينمائي خلال دورته الأخيرة؟ من كان يتصوّر أنْ تتألّق السينما الوطنية داخل مهرجان سينمائي يصعب الحصول على دعوة إليه، فبالأحرى عرض فيلم داخل مسابقاته المتعددة وانتزاع أهم الجوائز فيه؟ في وقتٍ ظلّ فيه أغلب النقاد يشكون من الحال الذي وصلت إليه سينما البلد، أمام سياسات الترفيه والاستهلاك التي تُدافع عنها بقوّة بعض الأسماء، باعتبارها تتماشى مع سياسة « الجمهور عايز كده » وكامتداد لمفهوم السينما المعاصرة المبنية على ثقافة « الفاست فود ».
ورغم أنّ ما ذهب إليه مُجمل النقاد صحيحاً إلى حد ما، بسبب وعيهم الدقيق بالمفهوم الأخلاقي الذي تُحاول السينما أنْ تُصبغه على فيلموغرافيتها، فإنّ النقد يُقدّم نفسه كخطابٍ مُنبطحٍ، فهو لا يتوقّف عن كونه مجرّد مقالات انطباعية فجّة غير قادرة على الدخول في بنية الفيلم وصُوَره. أمام غياب كبير للدراسات المونوغرافية التي تُشرّح الأفق الفكري للفيلم وتتعامل بوصفه خطاب بصري وليس لغوي مكتوب. وهذا مطبّ الكثير من الأقلام التي تكتب عن الفيلم كما لو كان رواية أو مجموعة قصصية، وهذا الأمر، يُشكّل خطراً على النقد السينمائي، إذْ يُحوّله إلى ممارسة مشاعة بين الناس يكتب فيها كل من هبّ ودبّ.
ثمّة أقلامٌ نقدية مميّزة تعمل بقوّة على النقد المغشوش الذي يُحاول تكريس مفهوم سينما تجارية تقف عند حدود الصالة، بطريقة أصبحت فيها شبّاك التذاكر تتحكّم في مفهوم التذوّق الجمالي وتصنع للفيلم خطابه الجمالي. وتكاد هذه الأفكار تحتلّ مكانة كبيرة داخل المتخيّل السينمائي اليوم، لكون تُشكّل رهاناً قوياً بالنسبة لبعض المخرجين المغاربة. في السابق كان الرهان هو أنْ يحرص المخرج على مجابهة التقليد ودعاته في سبيل تكريس الفرجة السينمائية داخل الفضاءات العمومية.
أما اليوم، فقد أصبح الرهان بالنسبة للمخرجين هو المنافسة والقضاء نهائياً على دعاة السينما التجارية. إنّ السينما مشروعٌ فكريّ ينطلق من المجتمع ويلتحم بباقي العناصر الأخرى المُرتبطة بالتاريخ والفضاء والذاكرة. لدرجة يصعب فصل السينما عن الواقع الاجتماعي الذي منه تنطلق. ففي كلّ صورة تُبلور السينما عشرات الحقائق التي تقبض عنها الكاميرا، لكنّها تتعامل معها بوصفها يقينيات، بل تُحوّلها إلى مُتخيّل رمزيّ.
انتصر هؤلاء الشباب في كان بأفلامهم عن تيار السينما الترفيهية بالمغرب الذي يُريد أنْ يُحول السينما إلى سلعة خاصّة تُقدّم للناس حسب الطلب. وبشهادة لجان عالمية حقّقوا انتصاراً حقيقياً لن يُنسى من خلال قصصهم وحكاياتهم. وهذا الأمر، يدعو إلى التفكير كيف يُمكن لهذه الأسماك الجميلة أنْ تُحقّق كلّ الأحلام الشامخة في سماء السينما، في وقتٍ تموت فيه الأسماك الأخرى بشكلٍ يوميّ داخل ماء مُلوّث تتحكّم فيه مؤسّسات الإنتاج عن طريق سياجات قاهرة تُحاول فرضها على المخرج وكاتب السيناريو؟
إنّ الأعمال السينمائية الجادّة مهما احتجزت أفكارها، فإنّها تحفر مجراها عميقاً في التربة وتتوغّل في مسامها، لكونها تُقدّم سينما في كامل وعيها بالتحوّل التي يعرفها الواقع المعاصر، بكل أهواله ومآزقه وتصدّعاته. فهي تُقدّم نفسها كسرديّة بصريّة تحديثية تُخلّص السينما المغربية من أوهامها وتدعوها إلى الانخراط في سينما حقيقية تتجاوز كلّ الحدود المُمكنة، بما فيها المعتقد والجسد والسياسة والتاريخ.