اليوم حين نتأمّل المَشهد الثقافي، يكاد المرء لا يعثر على ملامح أساسية للمسار التحديثي للثقافة المغربية. لا مركز ولا هامش، بل فقط مجرّد سرك من السراب يغدو فيه المثقف أشبه ببهلوانٍ تُحرّكه المؤسّسات الثقافية بالطريقة التي تُريد، لا كما يُريد هو. اليوم لم يعُد المثقف يبكي على الأطلال، ويُعيد تأليف الموال الغنائي القديم بأنّ الدولة تقصي الهامش من الثقافة، ما دامت المؤسّسات تتعامل مع الثقافة، باعتبارها إكسيسوار يدخل في أجندات سياسية وإصلاحية لا أكثر. في حين أنّ العمق الثقافي، يظلّ مُغيّباً وتتحكم فيه نوازع برغماتية أكثر مما تكون معرفية. حين نحضر إلى اللقاءات الثقافية، سواء في مدن المركز أو الهامش، لا يعثر المرء على المثقف، بل فقط أشخاص لا علاقة لهم بالفعل الثقافي، أيْ أنّهم أشخاص يتلقون العمل الثقافي أكثر من كونهم يُساهمون وبوعي قويّ في إنتاجه.
أمرٌ كهذا يُعتبر خطيراً في بلدٍ له جهة وصية على الثقافة، وله جامعات ومعاهد ومثقفون كبار. فهل خاصمت السياسة المثقف مع الثقافة؟ أمام أنّ سوء تدبير الشأن الثقافي وغيابه الكليّ من المَشهد اليوميّ، يقود المثقف إلى الصمت والتوقّف عن إنتاج الثقافة لصالح المجتمع؟
إنّ الثقافة مشروع مجتمعي مُؤثّر قادر على إخراج المجتمع من براثن التخلّف الذي يعيشه. الثقافة نسق فكري وطريقة مختلفة في التفكير ورؤية سديدة في تعلّم كيفية العيش وفهم الآخر بمحاورته والانتماء إلى ثقافته. إنها بطريقة ما شكل من الوجود الذي يُعطي للمرء قيمة مُضافة إلى نفسه قبل المجتمع. كيف مثلاً يُمكن عزل الثقافة في حياة الفرنسيين؟ لا أعتقد أنّ أمراً كهذا ممكن، مادام الغرب بأكمله يتعامل مع الثقافة والفنون والآداب، بوصفها حلولاً ناجعة لتربية الناس وتهذيب أذواقهم لمُواجهة مختلف مظاهر التوحّش التي تستبدّ بالمجتمعات المعاصرة اليوم.
التفكير في الثقافة اليوم على أساس أنّها مشروع مجتمعي، يعني أساساً الإقامة في صلب الحداثة وعيشها. لا باعتبارها مجرّد مفهوم يُتيح لنا بعض مزايا وخيرات الغرب، وإنّما الإيمان بها كقدر محتوم، ينبغي العيش فيه وعدم السباحة ضدّ أمواجه بتعبير عبد الله العروي. ما يعني أمام مفهوم ينبغي إعادة التفكير فيه في علاقته بالفضاء العمومي. إذْ كيف يُمكن أنْ نُفسّر غياب تماثيل ولوحات وعرض أفلام بفضاءاتنا العمومية بالنسبة لبلدٍ يُعرف على أساس أنّ له تاريخ حضاري ضارب في القدم؟ ما قيمة ثقافة يتمّ الزجّ بها في سراديب الجامعات ومدرّجاتها الباردة التي لم يعُد أحداً يُريد الدخول إليها؟
أعتقد أنّه آن الأوان لخلق قبّعة التقليد والظهور بمظهر الحداثة الذي يجعلنا نتبنّى الثقافة كمشروع له علاقة بالمجتمع أوّلا وأخيراً. الانفتاح على الفضاء العمومي أكبر وسيلة لتحديث الثقافة المغربية، وجعلها مُتداولة بين الناس مثل الخبز والهواء والماء.