كيف يُمكن للمرء العيش في مُدنٍ دون أنْ يُسافر إليها؟ رأيٌ كهذا يبدو للمغاربة وكأنّه ضربٌ من الجنونٌ. فالكثير من الناس اليوم لا يستطيعون حتّى الحلم، لأنّ طبيعة الحياة اليومية تخنقها. والمغرب بلدٌ واقعي يؤمن ناسه بـ « جيني كود ». فغياب ثقافة الخيال والحلم من حياتها اليوميّة تجعل كلّ مواقفنا وهواجسنا ومشاريعنا وأحلامنا معطوبة. فكلّ شيءٍ يبدأ من « قصيدة » كما قال الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، لكنّ « القصيدة » هنا معناها الحلم. هذا الأخير، به نحتمي من قساوة الواقع وفداحته. الحلم ضوءٌ نازلٌ من نبع مجهول.
إنّه نور يخترق المطلق المسيّج بأغلال الواقع. فبالحلم تنمو القصائد ببطء. بالحلم تنمو المشاريع الثقافية لتترك أثرها في وجدان الناس بعد مرور سنوات. الحلم مثل الورود الجميلة التي لا تُجمّل فقط الواقع، بل تجعل عملية اختراقه مُمكناً. لولا الحلم لما استطاع الإنسان الابتكار. لولا الحلم لما كان العيش مُمكناً. أنْ نحلم، يعني أنْ نبتعد عن كلّ شيء يُعيق طريقنا لتحقيق أحلامنا. فالحلم في ظاهره تخييلٌ، لكنّه حدسٌ يقود المرء إلى الحقيقة.
باريس، ليس مجرّد حلمٍ بالنسبة لي، إنّها موقفٌ وواقع ووجود أرغب في الانتماء إليه، فكراً وثقافة وعيشاَ ووجوداً. إنّها رغبة في التحرّر من إسار الإيديولوجيات العمياء. رغبةٌ في اختراق المُطلق وارتياد سراديبه البلورية. باريس، ثقافةٌ تجعل المرء يعيش في أفق حداثي صلب. باريس، كونٌ يغمره الحبّ والجمال وما حوله مجرّد خواء فائض. توجد مُدن تعيش فينا ونعيش فيها، رغم أنّنا لم نُسافر إليها يوماً. باريس بمقاهيها ومكتباتها وجامعاتها وحانتها ودروبها، تعيش فيّ يومياً، كأنّها جنّة يشتهي المرء العيش فيها إلى الأبد.
خوفي من العيش بعيداً عن جدّتي كان يمنعني. هل أقوى على السفر إليها اليوم وأنا في هذا العمر؟ كيف أحمي نفسي من مشاعر الرحيل التي تجتاح المرء كلّما فكّر في ترك بلده؟ كيف نُقنع أنفسنا أن « الوطن » مجرّد كذبة وأن الإنسان يستطيع أنْ يعيش في أيّ مكان يحلم به، طالما لديه رغبة في ذلك؟