خلال سبعينيات القرن العشرين لم يكُن اليسار مجرّد حركة سياسية أو إيديولوجية جامدة، بل كان دائماً حاضراً في النقاشات العمومية ذات الصلة بالثقافة والسياسة والمجتمع، أيْ أنّ اليسار لم يكُن عبارة عن تكتّل سياسي جامد يوافق على مخرجات الحكومة ومواقفها وقراراتها، بل ظلّ حريصاً أنْ يكون مثل الرقيب أو الشرطي على مختلف القرارات التي تتقدّم بها أيّ حكومة قائمة. هذا الدور لم يبق حبيس الأجندات الرسمية بقدر ما امتدّ ليصبح مؤثّراً حتّى في الراهن الاجتماعي، إذْ أصبح ثقافة اليسار ثقافة حداثية مبنية على النقد وتقبّل الآخر.
ثقافياً ساعد اليسار في بروز نوعٍ من الثقافة المبنية على النقد وتعطي قيمة للأفكار المبنية على الابتكار واختراق الحدود والسياجات التي تظلّ في حكم اللامفكّر فيه داخل الثقافة المغربية. بيد أنّ بعض المثقفين اليساريين طرحوا العديد من الأسئلة المتعلّقة بالمرأة والجنس والدين والسياسة وفق مواضعات لم يُفكّر بها مثقفو اليمين خاصّة الحركات الإسلامية التي كانت تتبنى ثقافة تقليدية تعمل على تكريسها داخل الفضاءات العمومية.
فكر اليسار فكرٌ حداثي ومبنيّ في أساس على النقد، لكنْ ليس النقد من أجل النقد، وإنّما النقد كعملية فكريّة تضع القضية/الإشكالية موضع أزمة، وذلك من أجل اختبارها ووضعها موضع فحص ونقد. بهذه الطريقة بدأ اليسار يُحرّك الواقع الثقافي ويفتحه على مناخات مختلفة من العالم. بهذه الطريقة لم يعُد المثقف يُداهن الوسط الذي ينتمي إليه، بقدر ما يُحاول عبر آلية النقد أنْ يخلق جدلاً فكرياً حول بعض القضايا المتّصلة بالثقافة وشؤونها. وكان الاهتمام ببعض الموضوعات الحساسة في طليعة هذه الموضوعات التي بدا فيما بعد أنّها ليست حسّاسة كما كان يُعتقد. لكنْ على الأقلّ عمل اليسار على طرحها وإعادة التفكير فيها وتفكيكها وجعلها قضية مركزية في أجنداته.
كان الجسد على سبيل المثال لا الحصر، أحد هذه المفاهيم المغيّبة في تاريخ الثقافة المغربية لأسباب دينية لا أكثر. لكنْ مع بداية السبعينيات، بدأ الجسد في صُوَره وتمثلاته وكافّة دلالاته يقتحم القصيدة واللوحة والفيلم ويعلن عن ميلاد ثقافة حداثية تُريد أنْ تقطع مع ثقافة التقليد. ولعب مثقفو جيل السبعينيات دوراً كبيراً في إرساء دعائم ثقافة اليسار وجعلها ثقافة المثقف بامتياز.