في الغرب، حين يُنظّم مهرجانٌ سينمائي، فإنّ الهاجس الوحيد بالنسبة لهم، هو حرصهم الشديد على تكريس صورة المهرجان في أذهان الناس من خلال أهمية الأفلام التي يختارونها للعرض والمُشاهدة، فيكون المهرجان عبارة عن مختبرٍ بصريّ يتم فيه تداول الأفكار ومناقشة ما تطرحه الأفلام من أسئلةٍ وقضايا وإشكالات ذات علاقة بالواقع والمُتخيّل، هذا مع حرصهم أنْ يظلّ المهرجان منارة سينمائية ساطعة، بما يتضمّنه من رؤيةٍ ومهنيةٍ في طرق التفكير والاشتغال وتسيير المهرجان، بحيث يعثر المرء على جملةٍ من النقّاد والممثلين ممّن لهم مواقف معروفهم داخل المَشهد السينمائي العالمي بآرائهم الجريئة وقُدرتهم على مُناقشة الأفلام والجهر بحقائقها، بعيداً عن أيّ تحيّز وطني أو إيديولوجي.
كما تحرص هذه المهرجانات الكبيرة والصغيرة منها، على استدعاء أهمّ النقّاد في العالم، بمن فيهم داخل الدول العربيّة، من أجل خلق جدلٍ سينمائي هادف يُعوّل عليه على مُستوى النقاش. ما يعني أنّ وظيفة الناقد السينمائي ليست التطبيل لجهةٍ مُنظّمة أو مدحٍ مُفرطٍ لممثّل أو مُمثّلة، وإنّما تفكيك العمل السينمائي ونقده وتهديمه، ثمّ إعادة بناءه من جديد، بطريقة يُبرز فيها الناقد أهميّة الفيلم من عدمه وجماليّات صنعته ومدى قُدرته على التأثير في الحاضر والاشتباك مع قضايا ذات صلةٍ بموضوعاتٍ تتعلّق بالذاكرة والواقع والتاريخ.
ليست المهرجانات المغربيّة، إلاّ مجرّد حفلات، يطغى عليها التكريمات الجامدة التي لا تنفع السينما في شيء. إذْ ما الذي يستفيده الممثّل / ممثّلة من تكريمٍ داخل مهرجان مغربيّ؟ إذا كان الأمر يتعلّق بقيمة الجائزة، فهي مجرّد باقّة ورد وتذكار وشهادة مُشاركة، أمّا إذا كان الأمر مُتعلّقاً بالبُعد الرمزيّ للجائزة ودلالاتها، فتجدر الإشارة إلى أنّ المهرجانات المغربيّة باستثناء عددٍ قليل منها، من تحظى وتتوفّر على هذه الحظوة الرمزيّة التي تجعلها مُؤهّلة لمنح دلالاتٍ رمزيّة لسيرة مخرجٍ أو ممثّل، لكون لا أحد يعرفها ولا سمع بها وبأفلامها وتوقيعاتها ومُناقشاتها وندواتها. فأغلب المهرجان هشّة وتنتمي إلى جمعياتٍ ثقافيّة غير مُؤثّرة في الراهن السينمائي.
إنّ الزائر لهذه المهرجانات، يستغرب مدى حضور كلّ شيءٍ داخلها، إلاّ السينما وناسها ومُتخيّلها. فالنقّاد المُتخصّصون غائبون، ويتمّ تعويضهم بأعضاء جمعيات ثقافيّة وأحياناً بأسماء رؤساء مهرجانات أخرى، حتّى يضمن صاحب المهرجان قيمته ووجوده في حفلاتٍ أخرى. وهذا الأمر، يتكرّر من مهرجانٍ إلى آخر، وبنفس المُمارسات البئيسة، التي يجعلون فيها الناقد يعيش غربة حقيقية، وحتّى إنْ حضر فإنّه في الغالب ما يكون عبارة عن إكسيسوار، إذْ لا يتمّ استشارته في اختيار الأفلام وتنظيم ندوات علمية ولقاءات سينمائية مع المخرجين، بما يجعل حضوره فاعلاً ومُؤثّراً في يوميّات المهرجان. مع العلم أنّ أغلبهم يتجنّبون إرسال دعواتٍ للناقد السينمائي، لأنّه في نظرهم مُزعجٌ يُعرّي أوهامهم ويكشف أعطابهم وزلاّتهم.
وبما أنّ هذه المهرجانات تفتقر إلى مشروع فنّي يُذكر، فإنّ أغلبها يكتفي بعرض أفلامٍ قديمةٍ يسهل الحصول على روابط لمُشاهدتها، بل إنّها تكون مُتوفّرة لدى أغلب النقاد وسبق لهم أنْ شاهدوها وكتبوا عنها منذ شهور وأحياناً منذ سنوات. فمن الذي يستفيد حقّاً من هذه الأفلام السينمائية، في وقتٍ يتعذّر فيه على عموم الناس مُشاهدتها؟ وإلى أيّ حدّ يُمكن للفيلم السينمائي خلق جدلٍ فنّي داخل المجتمع، وهو لا يتجاوز قلاع المهرجانات وسراديب القاعات؟ بل إنّ بعض المخرجين من أصحاب الأفلام القديمة، لا يأتون حتّى إلى المهرجان، لكونهم يعرفون مُسبقاً أنّ الفيلم قديم لا ينبغي عرضه، إلاّ في إطار تكريم خاصّ أو نوسطالجيا أو افتتاح بعض الدورات السينمائية. أمّا الفيلم الجديد، فهو صعب الحصول عليه، سيما إذا عُرض بمهرجاناتٍ عالمية وحظي بجوائز وتتويجات، تجعله مُستبعداً من دائرة المهرجان.
ونظراً إلى الهشاشة التي تتميّز بها هذه المهرجانات، فإنّها تلوذ تأجيج الفرجة لا عن طريق عرض الأفلام المغربيّة الأصيلة، وإنّما استدعاء نجومٍ من المشرق والترويج لصُوَرهم وفيديوهاتهم، مُستغلّين أيقونتهم في خدمة مصالحهم الخاصّة، على أساس أنّ المهرجان عالمي يدعو كبار الفاعلين والمُؤثّرين في المَشهد السينمائي.