وتأتي قيمة هذا الكتاب في كونه أوّلاً لرجل طالما عُرف بزخم أفكاره في نقد العقل العربي، سيما وأنّ الجابري يُعتبر أحد أقطاب الفكر العربي المعاصر وعموداً من الأعمدة التي ينبني ويُشيّد عليها هذا الفكر إلى جانب عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وهشام جعيط ومحمد أركون والطيب التيزيني وغيرهم من المفكّرين الذين طالما عُرفوا بنقاشاتهم الفكرية العميقة في العديد من القضايا والإشكالات ذات الصلة بالمجتمع العربي المعاصر.
غير أنّ الجابري حظي باهتمام كبير سيما وأنّ أفكاره ومواقفه كانت دائماً تستأثر بالقراء العرب، بحكم ما يجدون من قوّة من إنتاج الأفكار والتحليل والنقاش في قضايا تهمّ الإنسان العربي بصفةٍ خاصّة. هكذا عمل الجابري عبر سلسلة مواقف التي كانت تُنشر وتُوزّع على طول العالم العربي على تقريب المعرفية الفكرية التي عموم الناس والعمل على تبسيطها على شكل أفكار ومقاربات واستنتاجات في غاية الأهمية والإتقان.
صدور كتاب للجابري بعد 14 سنة على رحيله وفي موضوع أثير نادراً ما يتحدّث فيه المفكّرون والمُرتبط أساساً بـ « المعرفة التاريخية » وتحوّلاتها خلال الحقبة المعاصر عبارة عن حدث كبير ينبغي العمل على تثمينه خاصّة وأنّ صنعة التاريخ تدخل ضمن اختصاصات المؤرّخ وليس المفكّر. غير أنّ الجابري هنا يقلب المعادلة ويُوسّع أفق النّظر ويعطي للمؤرخ فسحة التفكير في صناعته ومدارسه ومناهجه.