ورغم أنّ صاحب « رائحة المكان » قد جاء متأخّراً إلى الكتابة الأدبيّة، إلاّ أنّه استطاع في غضون سنواتٍ قليلة، خلق جدلٍ واسعٍ بنصوصه، بحكم ما تقترحه من نُظم وأفكار وصُوَرٍ. وهي في مجملها نصوصٌ مفتوحة تتأرجح بين الشعر والنثر كنوعٍ من التجريب التخييلي القائم على تكسير الأجناس الأدبيّة وخرق حدودها الصارمة وسياجاتها المُظلمة، بما يجعل الكتابة مفتوحة على هواجس الذات ومتاهات الواقع وسراديب الذاكرة. وإذا كان بلقزيز يُوازي في كتاباته بين الأدب والفكر، فإنّ ذلك يعود أساساً إلى تعدّدٍ معرفي يعيشه في جسده والإمكانات التخييلية التي يحبل بها، لكون الأدب لا يُمكن اعتباره دوماً تخييلاً، بل كتابة فكريّة مُتجذّرة في بيئتها وتاريخها، تنحت مجراها عميقاً في الجسد وترُجّ السلالات الفكريّة وتُضاعف من وهج حضورها. تتميّز كتابات بلقزيز الأدبيّة بمسحةٍ شعريّة يُصبغها على نصوصه، إذْ تُظهر مدى حجم التعددّ المعرفي والزخم الجمالي الذي تنضح به ذاتيته. ففي كلّ كتابٍ يُتحفك الكاتب بمعمار فنّي ناذر وبستان لغةٍ يستحيل نسيانها، بل إنّها تظلّ تُقيم فيك وترسم لك في بعيد البعيد ذكرى مؤجّلة.
ينتمي بلقزيز إلى رعيل المفكّرين المغاربة الذين أسّسوا وعياً جديداً داخل الكتابات الأدبيّة، فمُجمل رواياته تأخذ طابعاً فكرياً، رغم ما تتخذه من شكل أدبي. تأتي كتابة الرواية والنصوص المفتوحة عند بلقزيز، باعتبارها نمطاً جديداً يُحاول عبره تأسيس خطاب فكري ومقاربة قضايا وإشكالات من داخل النصّ الأدب. من يقرأ رواية « الحركة » الصادرة عن دار منتدى المعارف والتي استعاد فيها ذكرى 20 فبراير، يجد نفسه أمام رواية « تكتب » التاريخ وتحاول أنْ تعمل على تشريح عناصر وصور وخطابات وأفكار ومواقف من داخل الحركة. وتبرز جماليات الكتابة هنا في التعامل مع الرواية كجنسٍ أدبي قادرٍ على زحزحة مفاهيم ذات صلة بالفلسفة والتاريخ من وجهة نظرٍ أدبيّة. أما نصوصه الأدبية المفتوحة مثل « رائحة المكان » و« ليليات » و »على صهوة الكلام » فإنها نصوص مقتبسة من سيرته الذاتية، لكنّها تبدو وكأنّها مكتوبة على إيقاع موسيقي مذهل. تحضر السيرة بكامل بهجتها وفتنتها وهي تُضيء معالم الكتاب، لكنّها سيرة لا تتّخذ شكلاً سردياً حكواتياً، بقدر ما تتأصّل كشذرات شعرية يمتصّ فيها النثر الكثير من الشعر ويُحوّل الكتابة إلى هواءٍ وخبز وماء.
ليس في كتابات بلقزيز الأدبية، ما يجعل المرء ينفر منها كما هو الحال في بعض تجارب الرواية الفكريّة داخل المغرب وخارجه، بل تشدّك لغته ومساراتها وتقاطعاتها وعجينها وتموّجاتها وهي تخترق الحدود التنميطية وتنهل مفرداتها وكلماتها من المعتّق في جرار الزمن. إنّ الوعي باللغة عند بلقزيز يأخذ بعداً وجودياً يُحرّر النصّ من كآبته وعطشه بما يجعل السرد يرنو إلى أنْ يغدو شعراً. بيد أنّ الاهتمام بتفاصيل السيرة لم يمنع النصّ من تأملّ فداحة الوجود الإنساني عبر تأمّلاتٍ شخصية يصبغها بلقزيز بنفسه الشعري الحالم. إنّ هذه المؤلفات تُضمر أكثر ممّا تُظهر، إنّها ببساطة تُرتّق مسارب الذاكرة وتستحضر الماضي الطفولي باعتباره ألماً.