لم يعُد هذا مُمكناً اليوم، في زمنٍ ينسحب فيه جامعيون حقيقيون تباعاً، يغادرون فيه رحاب الجامعة ومُدرجاتها، بعد سنواتٍ طويلةٍ من العمل الجادّ، لا بما ألقوه من محاضراتٍ علمية فقط، بل بما اكتسبه الطلبة منهم من آليات البحث العلمي وتعلّم مبادئ التفكير الفلسفي وطرق التعامل مع النصوص الكبرى، قراءة وتلخيصاً وكتابة وتوليداً للأفكار، بما يخدم مستقبلهم ومشروعهم العلمي داخل مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية. لم يعُد هذا مُمكناً، لا لكون الجامعة لا يوجد بها أساتذة و« مُلقّنون » وإنّما لصعوبة مقارنة ذلك الجيل من ناحية التحصيل العلمي والتعامل المنهجي والبحث العلمي، بما يوجد اليوم داخل المُدرّجات.
لقد أرسى السبعينيون دعائم الحداثة وعملوا على تكريسها داخل الجامعة من خلال آلية البحث العلمي وكوّنوا العديد من الأجيال التي قدّمت دراسات علمية أصيلة في ميادين تتعلّق بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وغيرها، ماتزال إلى حدود اليوم، مُؤثّرة وتفرض نفسها داخل الجامعة، كخطابات فكريّة قويّة يستفيد منها الطلبة والأساتذة والباحثين.
يستغرب المرء من حجم ما يُنجز اليوم من أطروحات دون أيّ طائلٍ منها، ما دامت عبارة عن تلخيصات لكُتبٍ وأفكار سبق طرحها أو تقطيع لما قيل في مصادر ومراجع اهتمّت بالموضوع، دون التفكير في عمق إشكالات راهنة تخدم الطلبة وتُنمّي حسّهم النقدي وقُدراتهم على مُستوى البحث والتفكير، حتّى يجد طالب الدكتوراه نفسه أمام لجنة تُناقشه في علامات الترقيم وكيفية ترتيب المصادر والمراجع حسب الترتيب الأبجدي، في غيابٍ تام للمُناقشة الفكريّة الخاصّة بأقسام البحث وفصوله ومباحثه ومحاوره. إذْ ثمّة فئة قليلة تقرأ النصوص وتعمل على تشريحها، بما يجعل الطالب / الباحث في امتحان حقيقي يُقيّم قُدراته المنهجية والفكريّة في تعامله مع موضوع البحث / الأطروحة.
وإذا كان المُشرف يلعب دوراً مركزياً في بحث الطالب على مُستوى التوجيه والتأطير والفهم، فإنّ العلاقة بين الطالب وأستاذه اليوم أصبحت هشّة وغير مبنية على الصدق، مادام كلّ واحد يُمارس تضليلاً على الآخر. فلا الطالب يجتهد في قراءة المتون الفكريّة ومراجعها، ولا الأستاذ يقوم بدوره المحوري في توجيهه إلى الكُتب الهامّة التي بإمكانها أن تفيده وتفتح قريحته على النقد والسؤال. كلّ هذا في وقتٍ أصبحت فيه البحوث الجامعية تجترّ نفسها ولا تستفيد سوى ممّا تركه باحثون ومُؤرّخون ومُفكّرون، بعدما غادروا الجامعة ومُختبراتها العلمية وهم يحلمون بغدٍ أفضل.
لكنْ في غمرة هذا الأفق الغائم، لا يتوقّف الجامعيون عن الشكوى من تدني مستوى الطلبة داخل الجامعة، سواء على مُستوى التكوين العلمي أو تحصيل اللغات، بما يجعلهم يُمارسون البحث العلمي بقواعده، دون أنْ يضطروا حسب زعمهم إلى جعل المواقع الإلكترونية وغيرها مصدراً هامّاً لمعلوماتهم فيما يُشبه عملية التقطيع والتلصيق. والحقيقة أنّ هذه الفعل يتكرّر من أستاذٍ إلى آخر، وكأنّهم يرسمون ملامح أغنية مُشتركةٍ ساخرة، في وقتٍ يُدرّسون فيه منذ أكثر من 30 سنة ولا أثر يُذكر لأطاريحهم الجامعية داخل دور النشر، لأنّهم لم يُفكّروا يوماً في نشرها.
لا لأنّها مُحتواها المعرفي عميق جداً لدرجة لا يقدر الطلبة والباحثون الشباب على فهمه، فيجدون أنفسهم محرجون أمام « عمقهم »، بل لكون هذه البحوث أشبه بميثولوجيات لا أحد يُصدّقها ولا يقربها، لأنّ محتواها ماضوياً، لم يعُد الناس في حاجة إلى قراءته، وهم يتطلّعون إلى معرفةٍ معاصرة بواقعهم وأجسادهم وصُوَرهم. ولو كان البرنامج الدقيق الخاصّ بتقييم البحوث وضبط معارفها وإحالاتها موجوداً في السابق، لمُنعت عشرات البحوث الجامعية من المناقشة والنشر، أكثر ممّا هو موجود اليوم داخل الأجيال الجديدة بالجامعة المغربيّة.
غير أنّ هذه الشكوى لا تقف عند حدود الأساتذة، بل إنّ الكثير من الطلبة يشتكون أيضاً من تواضع أساتذتهم، خاصّة حين يتعلّق الأمر بموّاد علمية بعيدة عن تخصصهم العلمي، بعدما يضطرّ الأستاذ إلى توزيع حصصه على شكل عروض يقوم بها الطلبة، تلافياً لأيّ نقصٍ أو ارتباك، قد يظهر عليه لحظة تقديم الدرس أمام الطلبة، فتكون المواقع ملاذاً آمناً لهم يحتمون به من سُلطة القراءة وساعاتها المُضنية، حتّى غدت « الويكيبيديا » بمثابة عبارة أو كلمة يطلقها الجامعيون على الجيل الجديد، لكنْ، إذا أخضعنا تلك الأطروحات القديمة إلى البرنامج المذكور من سيُصبح بطلاً للويكيبيديا ورقيبها ونجمها؟