قبل بداية شهر رمضان، تُطالعنا إشهاراتٌ تبشيرية حول الدراما والجديد الذي ستأتي به خلال هذا الشهر. فيُصبح موضوع المسلسلات والسيتكومات، هو ما يشغل المغاربة ويُؤرقهم، وكأنّ الذي في حاجةٍ إليه هو أمر الدراما، مع العلم أنّ الواقع المُتصدّع الذي ننتمي إليه يبقى أكثر درامية وتراجيدية من ايّ مُسلسلٍ يدّعي أنّه يُصوّر حياة المغاربة وواقعهم. لا شيء يستفيده المُشاهد من دراما رمضان، في وقتٍ لا تتوفّر فيه مسلسلاتٌ حتّى على الشروط الفنّية على مُستوى الصورة والأداء والتخييل، بما يجعلها عملاً حقيقياً قادراً على اقتناص نتوءاتٍ صغيرةٍ من الواقع وتحويلها إلى فكرة فنّية أو مشروعاً درامياً.
لا شيء من هذا يحدث، فأغلب الأعمال المعروضة، لا يتوفّر أصاحبها على مشاريع درامية تُوحّد رؤاهم وتدفعهم إلى التفكير في قضايا جديدة ذات علاقة بواقعهم وذاكرتهم. بل إنّ المُتابع لا يكاد يُصدّق حجم التنميط والاستسهال اللذين يطبعان السيتكومات، التي تتحوّل إلى تهريجٍ سطحي يُفاقم البلادة، ويجعل الناس يتوهّمون عمق الكوميديا الساخرة، وما تحمله من دلالاتٍ فكريّة عميقة في حياة البشر. وهذا الأمر، مردّه إلى الوسائط التي غدت تُعمّم التفاهة المُقنّنة، وتُقدّمها على أساس أنّها فنّي حقيقي وأصيل. بل إنّ المُشاهد غدا مُدمناً على بعض حلقات المسلسلات، لأنّه يبقى مشدوهاً صوب عنصر الحكاية، وهي تُمطّط بطريقة مُرتجلة، يجعل من خلالها المُخرج الفكرة تبدو وكأنّها تتجدّد من تلقائها نفسياً، كما تُطالعنا هذه التقنية الجماليّة في سيناريوهات فرنسيّو وأميركيّة. والمُخرج يستغلّ هذا الانشداه تجاه الحكاية، فيعمل على دغدغة قلوب الناس بمَشاهد قريبة من واقعهم وأحلامهم، وذلك من أجل شدّهم أكثر صوب حلقاتٍ قريبة قادمة.
والحال أنّ هذه المسلسلات، على الرغم من تحقيق ملايين المُشاهدة، لا ترقى للوصول حتّى إلى لجان القراءة. لكنْ، مع ذلك فهي تصل وتُقرأ وتُدعمّ وتُنتج ويتمّ التعريف بها وتقديمها على أساس أنّها أفضل الأعمال. إنّ عتبات المُشاهدة وتحقيقها لملايير المُتابعة ليست معياراً حقيقياً لتقييم العمل الدرامي. لأنّ هذا الأخير، له صلاحياته ومعاييره وخصائصه الفنّية والجماليّة التي تجعل منه عملاً فنياً وليس مجرّد تدريب إنشائي بصريّ يتم فيه توليف الصُوَر والمَشاهد. إذْ يستحيل العثور داخل هذه اللجان على ناقد فنّي له سعة نظرٍ في الأعمال وطريقة في التقييم، باعتباره عارفاً بالأفكار والنظريات والسياقات والمفاهيم وتقنيات التصوير، بل يتمّ الاستعانة بمنتجين ومخرجين، لا ينظرون إلى النصوص، إلاّ من خلال ما يُمكن أنْ تُذرّه عليهم من شهرةٍ وربح.
إذا عُدنا إلى التسعينيات، سنجد أنّه بالرغم من تواضع الإمكانات الإنتاجية وتأثيرها على التصوير والكاستينغ والمونتاج، تبقى بعض الأعمال ذات تأثير كبير في حياة المغاربة. بل إنّي لا أتردّد شخصياً في القول أنّ هناك أعمالٌ درامية، ما نزال نعود إلى مُشاهدتها اليوم، بحكم ما تُمطرنا به من مَشاهد ساخرة وأداءٍ احترافي واقعي ومواقف إنسانية مُستلّة من الواقع المغربي ومأساته. والحقّ أنّ هذه المسلسلات التسعينية، قد وجدت طريقها في ذاكرة الناس ووجدانهم، لأنّهم يُشاهدون هذه الأعمال الآن، ويقومون بتقطيع مَشاهدها على شكل فيديوهات يحتفون بها، وبما تمنحه لهم من فرحةٍ بصريّة وحنينٍ نوسطالجيّ إلى تلك الأزمنة التي كانت فيها العملية الدرامية، ممارسةٍ حقيقية عبارى عن مرآة مُتشظّية للواقع المغربيّ وتحوّلاته.