بل يُخيّل إليك وأنت تجول الدروب والشوارع أنّ الساحات وقد تحوّلت إلى مساجد، حيث تقوم الساكنة بتنظيف بعض الأحياء وتنظيمها، في حالة ما إذا لم تكُن تتوفّر على مساجد قريبة من أجل أداء الصلوات الخمس، استعداداً لأداء صلاة التراويح وما تمنحه في الجسد من شعور بالراحة والطمأنينة في هذا الشهر المبارك والكريم. والحقيقة أنّ هذا الإفراط في الدين، لم يعُد مُرتبطاً بشهر رمضان، بل امتد وتشعّب خارج هذا الشهر، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي عبارة عن أمكنة مفتوحة يُعطي فيها الناس المواعظ الدينية والدروس الأخلاقية لبعضهم البعض، وباتت الجماعات الدينية تُروّج لخطابها الديني عن طريق الصور والفيديوهات. بل وأحياناً على صفحات أحزابٍ سياسيّة تُثير السخرية في النفس والوجدان.
إذْ تجعل المرء يطرح أسئلة حول ما إذا كانت هذه الأحزاب تفهم معنى وجوهر الحداثة السياسية، كمّا نشأت وتشكّلت في الغرب منذ عصر الأنوار؟ وهل يعرف زعماء الأحزاب المغربيّة أنّ اعتمادهم الخطاب الديني في تسويق برامجهم الحزبية، يرجع المغاربة إلى عصور سحيقة؟ فهذا الاستغلال الفاحش للدين في الأمور السياسية والزجّ به في سوق المضاربات الحزبية البرغماتية، يُبعد الناس عن السياسة والدين معاً ويُقدّم لهم تصوّراً مغايراً.
لكنْ، وبدل أنْ تكون وسائل التواصل الاجتماعي، مساحات تنتقد الرأي العام وتطرح أسئلة الحداثة والتحديث في علاقتها بالمجتمع المغربي وما شهده من تحوّلات جوهرية، مع ضرورة احترام حريات التعبير، تتحوّل السوشيال ميديا خلال شهر رمضان إلى حلبات صراع بين « مجانين الحداثة » وبين « رعاة التقليد » ممّن لا يتوقّفون عن تذكير المغاربة بضرورة الصوم وصلاة التراويح وغيرها من الأمور الدينية.
ليس المشكل هنا في الصوم والصلاة، فهي أمور مفروضة على المسلم ولا أحد يجادل في ذلك، ولكنّ الاستغراق في الحديث عن الدين وتضخيمه ووضع الأشياء محلّ الحلال والحرام خلال هذا الشهر، تجعلنا كمجتمعات معاصرة ننسى مشاكلنا السياسيّة والاجتماعية اليوميّة التي ينبغي حلّها وتدبير أحوالها وشؤونها، من خلال النقد والتحليل والتفكيك لمُختلف المظاهر السياسية والتحوّلات الاجتماعية التي يشهدها البلد، بل يغدو العالم الأزرق بمثابة مختبرات لميلاد فقهاءٍ يتحوّلون إلى علماء وأصحاب معارف ورموز يتبعها الناس.
إنّ الحالة الغريبة التي نُعاينها في رمضان تتمثّل في اكتظاظ المساجد والطريقة التي يُصبح فيها بعض المغاربة متدينون وهم يدعون بعضهم البعض إلى الطريق الصحيح. ليس عيباً أنْ يزداد ويتقوى الإيمان في رمضان، لكنّ العيب هو عودتنا إلى حياتنا العادية بمجرّد خروج هذا الشهر عبر ممارسة الكذب والسرقة والشهادة بالزور، بما يجعلنا نعيش نفاقاً اجتماعياً كبيراً، يُصبح فيه الرأسمال الديني، بمثابة قناعٍ نضعه على وجوهنا ونُضلّل به بعضنا البعض ونتخفّى.
ليس الصوم والصلاة مرتبطان بشهر رمضان المُبارك فقط، بل يمتدّان إلى خارج هذا الشهر وينسجان معاً علاقة وجودية مع الإنسان المسلم وذاكرته وتاريخه.